31/10/2010 - 11:02

توريث أهداف بوش وسياساته../ جميل مطر*

توريث أهداف بوش وسياساته../ جميل مطر*
حضر الرئيس بوش وأقام ورحل ولم يشعر أحد في الشرق الأوسط أن ما يسمى بمسيرة السلام تحركت إلى الأمام خطوة واحدة نحو حل عادل وسلام حقيقي، كان واضحاً أنه حضر لأسباب أخرى ليس أقلها شأناً تعطيل مسيرة التفاهم المتبادل بين أغلبية الدول العربية وإيران، واستنزاف جانب من الفوائض المالية الجديدة في الدول المنتجة للنفط، قبل أن تمتد إليها أيادي دول في أوروبا ودول في العالم النامي.

على كل حال، لم ينتظر الكثيرون من أهالي المنطقة والمسؤولين عن أقدارها أن تحقق الزيارة أي تقدم على صعيد الصراع العربي “الإسرائيلي”. ولما كنا، محكومين وحكاماً، مقتنعين عن حق أو بمبالغة معقولة، أن هذا الصراع يقف وراء معظم صراعات ومشكلات المنطقة، ومقتنعين أن الرئيس بوش لم يفعل شيئاً يذكر لصالح العدالة والسلام في الشرق الأوسط، فقد استقبله العرب في كل مكان ذهب إليه وفي نفوسهم شكوك كثيرة وثقة ضئيلة. وتنبأ المعلقون بأنه لا يحمل معه شيئاً مفيداً للعرب عامة والفلسطينيين خاصة، وبأنه سيشعلها ناراً في قلوب الخليجيين وعقولهم ضد إيران. وسيثبت دعائم الدولة اليهودية ويؤكد رفض عودة اللاجئين ونزع المستوطنات وسيطالب العرب بتجاهل مذابح “إسرائيل” ومد يد السلام لتشد على يدها المضرجة بالدماء.

وبالرغم من أن أكثر التنبؤات “صدقت”، إلا أن آخرين، وأنا منهم، يعتقدون أن وراء الزيارة أهدافاً داخلية أهم شأناً، فمن ناحية يبدو أن إدارة الرئيس بوش تسعى إلى “توريث” الشخص القادم إلى البيت الأبيض قضايا وتوجهات معينة، بمعنى تثبيتها على الشكل الذي يحقق عدة أمور في وقت واحد، أولها أن تستمر هذه القضايا والتوجهات تحتل صدارة جدول أعمال الإدارة القادمة جمهورية كانت أم ديمقراطية. ثانيها أن يتواصل بعد رحيل بوش الاعتماد على التيارات السياسية والأيديولوجية التي ساهمت في صنع هذه القضايا ووضعها في صدارة اهتمامات الإدارة الراهنة. ثالثها أن يتعود الرأي العام الأمريكي على هذه القضايا فتصير بفضل هذا التعود أركاناً في استراتيجية يصعب في المستقبل الاستغناء عن أي منها أو استبداله.

المثال التقليدي البارز على ذلك هو ما آل إليه الصراع العربي “الإسرائيلي” بعد أن أصبح الدعم الأمريكي ل “إسرائيل” وتأييد كافة تصرفاتها موروثاً ثابتاً وركناً من أركان الاستراتيجية الأمريكية. تريد الإدارة مصيراً للاحتلال الأمريكي للعراق يماثل حالة الاحتلال “الإسرائيلي” في فلسطين، أي إقامة طويلة الأجل.

بذلك كانت رايس حريصة على انتزاع اتفاقية توقع عليها حكومة العراق تضمن استمرار الاحتلال لفترة طويلة قادمة، وبتوقيع هذه الاتفاقية بالسرعة اللازمة لم يتمكن رئيس أمريكي أو عراقي قادم من سحب جيوش أمريكا من العراق. وهناك الإرهاب مثال آخر، إذ تريد إدارة بوش أن يكون الإرهاب والحرب ضده أساساً ثابتاً، إن أمكن، للاستراتيجية الأمريكية لعقود قادمة. حدث شيء مشابه عندما قررت النخبة السياسية التي تولت الحكم في أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية اختيار الحرب ضد الشيوعية أساساً ثابتاً للاستراتيجية الأمريكية بناء على نصيحة ونستون تشرشل في خطابه بولاية ويسكونسين في عام 1946.

ولا نبالغ إذا قلنا إن إدارة الرئيس بوش كانت الإدارة التي بذلت أقصى الجهد واستخدمت أشد الأساليب تطرفاً لإدراج الدول العربية كافة في دائرة الصراع مع “إسرائيل” حين كان الموقف الأمريكي معادياً للجامعة العربية ورافضاً لها. ثم إخراجها منه بعد أن تمكنت في عهد كيسنجر من بعثرة العرب. ثم استخدمت الغزو المسلح والاحتلال المباشر لإخراج العراق من الدائرة، واستخدمت أقصى إجراءات الترهيب السياسية والمالية والاقتصادية، كما حدث في مسألة المعونة لمنع مصر من العودة إلى دائرة الصراع وتحريضها على البقاء على هامشه وربما على هامش النظام الإقليمي العربي وكان الدليل ترتيبها المتأخر والموجز جداً في جدول زيارة بوش، وإن حظيت بوقت لم تحظ بمثله دولة قطر المغضوب عليها بسبب قناة الجزيرة. وفي حالات معروفة تعمدت الولايات المتحدة و”إسرائيل” معاً وضع القيادة المصرية في مواقف الهدف منها المس بكرامة حكومة مصر أمام شعبها والحكومات والشعوب الأخرى.

سيحاول المستشارون في إدارة الرئيس بوش أيضاً توريث قضية مطاردة الإسلام الراديكالي بحجة أن الإسلام هو حضارة مضادة، أو هو الحضارة المضادة الوحيدة، حسب النظريات التي يطرحها مستشرقون ومحافظون جدد وليس مجرد واحدة من الحضارات التي زعموا أنها تهدد الحضارة الغربية. على هذا الأساس تبنت حكومة الرئيس بوش أطروحة معروفة وأحد دعاتها مازال يقدم استشاراته الشريرة لحكومات الغرب تقضي بأن “الإسلام الراديكالي” يسعى لإقامة خلافة إسلامية على كل الأراضي الممتدة من إندونيسيا إلى المحيط الأطلسي.

يعرف الذين صاغوا هذه الأطروحة في شكلها الأحدث أنها السبيل المناسب لفرض الهيمنة على أقاليم شاسعة ولكن متوترة وقلقة سياسياً واجتماعياً وإخضاع ثقافة هذه الأقاليم لتعديلات يجريها مبعوثو الحضارة الغربية السائدة أو وكلاؤها من الأكاديميين والإعلاميين والسياسيين، وتلتزم الإدارة القادمة بمتابعة تنفيذ هذه التعديلات وعدم التساهل مع الحكومات العربية إن قصرت أو تهاونت.

المهم في نظر المؤمنين بالبوشية عقيدة وسياسة، أن تحافظ الطبقة الحاكمة الأمريكية على الإسلام الراديكالي عدواً “يخيف” شعوب الغرب ويعبئها ويحشد قواها المادية والمعنوية لعقود طويلة قادمة. وما كان يجرؤ وزير الدفاع الأمريكي على توجيه الإهانة للدول الأطلسية المشاركة في الحرب الأفغانية لو لم تكن الحرب ضد الإرهاب مشرعة ضد الأعداء والحلفاء على حد سواء. وليس من قبيل المصادفة أو زلات اللسان أن يردد الرئيس بوش ومعاونوه عبارة القرن الحادي والعشرين قرن للحرب ضد الإرهاب الإسلامي والإسلام الراديكالي، كما كان القرن العشرون قرناً للحرب ضد الماركسية والإرهاب الشيوعي والتوسع السوفييتي.

وسيعمل الرئيس بوش وإدارته خلال الشهور القليلة القادمة على تحسين صورة الجمهوريين في الولايات المتحدة بعد أن ساد الاقتناع بفشل الإدارة الجمهورية الراهنة. ولا يحتاج الأمر إلى مؤرخ ليقرر أن هذه الإدارة هي الوحيدة في عقود وربما قرون عديدة التي اجتمع فيها هذا العدد من عناصر الفشل. نذكر أن إدارة بيل كلينتون الديمقراطية فشلت في تحصين أمريكا وحلفائها ضد سلبيات العولمة التي ساهمت إدارة كلينتون في تعظيمها وتدويلها، ولكنها نجحت في أشياء أخرى كثيرة، منها أو في مقدمتها، إنعاش الاقتصاد الأمريكي وتخفيض حدة الاستقطاب الأيديولوجي الذي اتسمت به سنوات حكم الرئيس ريجان وبوش الكبير.

وقبل كلينتون حققت إدارة بوش الأب نصراً ضد العراق في معركة تحرير الكويت ولكن التاريخ سجل لها نصراً أكبر حين انسحبت مبكرا من أراضي العراق التي احتلتها ورفضت كافة إغراءات التورط بالتقدم شمالاً. ومع ذلك فشل بوش الأب اقتصادياً وبخاصة في إدارة قضية العجز المالي في الموازنة الذي خلفته سياسات الرئيس ريجان. ونذكر أن الرئيس كارتر الذي نجح نجاحاً باهراً في إنقاذ “إسرائيل” من الانهيار السياسي الداخلي بسبب هزيمتها النسبية في حرب أكتوبر 1973 حين أبرم صلحاً “إسرائيلياً” مصرياً، أنهى ولايته بهزيمة سياسية وعسكرية بسبب أزمة الرهائن في إيران. أما بوش الثالث والأربعون فهو الوحيد بين هؤلاء الذي حقق هزائم وحلقات فشل متلاحقة بدون إنجاز واحد يحسب له أو للحزب الجمهوري.

قد تكون الشهور الباقية غير كافية لتحويل فشل إلى نجاح أو هزيمة إلى نصر. ولكن من منظور عدد من قيادات الحزب الجمهوري، تستطيع إدارة بوش التراجع بانتظام وتدرج عن سياسات كان الفشل فيها صارخاً وسيكون الاستمرار فيها مؤذياً لحظوظ المرشحين الجمهوريين لمنصب الرئاسة كما لمقاعد الكونجرس.

فعلى سبيل المثال يتعين على إدارة الرئيس بوش تحسين صورة البلاد الدولية، وهذه كما أعرف كانت نصيحة الزعماء الأوروبيين حلفاء أمريكا الذين شجعوا التحرك الأمريكي وبسرعة في مسيرة الصراع العربي “الإسرائيلي”. ولا شك أن الدعوة لعقد اجتماع أنابولس وزيارة الشرق الأوسط كانا يهدفان، بين أشياء أخرى، إلى تحسين صورة الأداء السياسي لإدارة الرئيس بوش في نظر الناخب الأمريكي. ولم تتحسن لأن النوايا لم تكن صادقة.

وعلى سبيل المثال أيضاً سيحاول بوش تصعيد حالة الخوف لدى الرأي العام الأمريكي من الإرهاب، وستستمر الإدارة، وبسخافة مذهلة، في ترديد القول بأنها استدرجت الإرهاب الدولي إلى العراق لينشغل بعيداً عن أمريكا بقتل المدنيين العراقيين والجنود الأمريكيين. ويبدو معقولاً الرأي القائل بأن إدارة الرئيس بوش عندما قررت نشوب حرب في باكستان كمرحلة رابعة، بعد أفغانستان والعراق وإيران إنما كانت تسعى إلى كسب ثقة الأصولية الدينية في أمريكا ودعم قوى المحافظين الجدد وجماعة الضغط الصهيوني وتأكيد العزم على “توريث” القادم الجديد إلى البيت الأبيض الحرب وهي مشتعلة وجاهزة للتمدد نحو كافة حدود الدول الصاعدة في آسيا، وبخاصة الصين، إذا احتاج الأمر.
"الخليج"

التعليقات