31/10/2010 - 11:02

جاء الذئب، جاء الذئب.. صدقوا!../ نهلة الشهال

جاء الذئب، جاء الذئب.. صدقوا!../ نهلة الشهال
لم يكد أحد يسمع استغاثة أم الفحم، في المثلث المكتظ بسكانه العرب داخل إسرائيل، ذاك الذي تريد المشاريع الحكومية الإسرائيلية «مبادلته» بالمستوطنات في الضفة.

تحتل أخبار الحكومة الإسرائيلية في طور التشكيل كل الحيز الإعلامي العالمي. ويحتل عقولنا انتظار المنقذ، السيد باراك أوباما. الفكرة واقعية أم اتكالية أم تآمرية؟ لا يوجد حتى نقاش علني حول هذه التشخيصات، وهو لو حدث لكان سفسطائياً. أما الانتظار، فموقف مؤكد وشامل، والنقاش الدائر بصدده يتناول درجات جدواه، مما لا يقل سفسطائية، أو عجزاً يذكّر بموقع متفرجي مباراة كرة قدم، حماسهم، تعّرقهم، وتوترهم أثناء متابعتهم لكرة تجري، تتقاذفها أرجل سواهم... سيعترض البعض قائلين إن في المباراة حماسة على الأقل، وان تشجيع الأنصار قد يؤثر في نتيجة اللعبة!

منتصف الأسبوع الفائت، شكّل سكان أم الفحم، ثاني كبرى المدن العربية داخل أراضي 1948، سلسلة بشرية لحماية مداخل مدينتهم بمواجهة تظاهرة مرخصة لحركة «كاخ - كاهانا» الفاشية. مرخصة، رغم وجود حظر قانوني على هذه الحركة في إسرائيل بعد واقعة الحرم الإبراهيمي في الخليل، حين ارتكب باروخ غولدشتاين مجزرته. مرخصة، ومحمية بمواكبة من الشرطة الإسرائيلية. كانوا ينوون دخول المدينة، للتعبير عن احتجاجهم على البناء غير المرخص! لم يتجاوز عددهم المئة، ولكنهم يعتقدون أنهم سيعودون «في المرة القادمة» وقد أصبحوا عدة آلاف.

كان عديد الشرطة الحامية لهم، المعتدية على مناهضيهم، عدة آلاف. ساند الفلسطينيين في تحركهم المناضلون الإسرائيليون المناهضون للصهيونية. ومثلهم، رفعوا الأعلام الفلسطينية، واشتبكوا مع الشرطة، واختنقوا بالغاز المسيل للدموع، وأصيبوا بجروح طفيفة. ولكنهم لم يُعتقلوا، بخلاف المتظاهرين الفلسطينيين الذين - لا ننسى - يحملون الهوية الإسرائيلية، وكانوا حتى الآن مواطنين من الدرجة الثانية، وهم مرشحون ليصبحوا مواطنين مؤقتين بانتظار الترحيل. هل هي صرخة «جاء الذئب، جاء الذئب»، التي لفرط تكرارها في غير وقتها، باتت غير قابلة للتصديق؟

معركة الفلسطينيين في أراضي 1948 بدأت. أما معركة القدس، فقطعت مسافة كبيرة. فالسكان هنا يحملون أوراق إقامة خاصة، ليس من شيء أسهل على السلطات الإسرائيلية من نزعها. وعملية تهويد القدس باتت متقدمة، تسللاً في البداية ثم بالوقاحة الجماعية الجارية هذه الأيام: أحياء الشيخ جراح، البستان... هذا عدا توسيع مستوطنة "معالي أدوميم" القائم بوتائر ستجعل التحامها بالقدس مسألة وقت قليل. وعدا الحفريات في محيط المسجد الأقصى الذي قد تنهار من جرائها أجزاء منه في أي وقت.

وفي نهاية الأسبوع الفائت أيضا، منعت السلطات الإسرائيلية احتفالية «القدس عاصمة الثقافة العربية 2009». مُنع كل نشاط في القدس نفسها، وطال المنع مدينة الناصرة، كبرى المدن العربية في 1948. والحجة أنها احتفالات تخالف «قانون الاتفاقيات المرحلية مع الجانب الفلسطيني، الذي يقضي بأن يقتصر عمل السلطة الوطنية الفلسطينية على منطقتي قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة»، كما قال في حيثيات المنع آفي ديختر، وزير «الأمن القومي» الإسرائيلي! هذه تشبه قصة مبادلة أم الفحم بمعالي أدوميم: ربح صاف على طول الخط. فإسرائيل تعتد بما تشاء، وتتذكر على هواها ودون خوف من خجل «الاتفاقيات المرحلية»، أي أوسلو وتوابعها، التي لم تبق على أي بند منها. «جاء الذئب، جاء الذئب»؟.

وإنما، وإذا لم يكن أحد، عدا الضحايا المباشرين، يريد سماع الصرخة والتحرك بمقتضاها، فهل يصح وصفها بالمعارك؟ لن نفتح ملف جدل سفسطائي آخر. هي، هذه وتلك، كما غزة والضفة الغربية وحق العودة للاجئين، عناصر المسألة الفلسطينية. ومقاربتها بالمفرق باتت اليوم مستحيلة. وذلك ليس رغبة في التطرف كلما ازداد الواقع سوءاً، وليس تجاهلاً لإمكان - أو ضرورة - ترتيب خطة عمل متفاوتة المهام، بل بسبب أمرين أثنين كلاهما حاضر ومرتبط بالأخر بلا فكاك: عودة نتانياهو مصحوباً بليبرمان هذه المرة، وعمق الانقسام السياسي الفلسطيني الذي يشي عناده واستمراره على هذه الشاكلة بوجود حالة من الضياع في الرؤية.

يستخف الكوارثيون (الابوكاليبسيون) بالتطورات السياسية الإسرائيلية، بل يعتبرون كل خطوة نحو التطرف الفج إيجابية، باعتبارها تقرب من «الحل النهائي»، ثم هم يقللون من الفارق بين القادة الإسرائيليين إلى أي جهة انتموا. ويوفر لهم أيهود باراك الدليل. فهو حين قبل الاشتراك في الوزارة سوّى بالأرض كل تميز لحزب العمل عن «اسرائيل بيتنا» أو «شاس». هل فعل بدافع البقاء في السلطة فحسب؟ لهذا بالتأكيد – وهو دليل انحطاط في السياسة – وإنما وخصوصاً لأن انعدام الأفق أمام أي حل يهيمن بإحكام. لم يعد مهماً اليوم أن ينفجر أو يزول حزب العمل نتيجة موقف باراك، أو أن يمنح وجوده في الوزارة بعض الاحترام الدولي لها، مما تسترسل معالجات الحدث في تناوله. المطلوب تسجيل طبيعة اللحظة الإسرائيلية، التي لم تولد من أحداث غزة، ولا من الهزيمة في لبنان عام 2006، بل نضجت كمآل للمشروع الإسرائيلي ضمن الشروط الفلسطينية والعربية المحيطة به: العجز عن اقتراح مخرج تاريخي للمسألة برمتها. فالعجز عن هزيمة إسرائيل وإزالتها من الوجود كأنها لم تكن، شيء، والعجز عن رسم صيغة، ولو نظرية، تنتهي إليها المسألة شيء آخر.

ولعل هذا العجز الأخير، الذي يبدو تناوله ترفاً طالما تطبيقه غير وارد، هو الموضوع. لعله، وبخلاف الحالات السياسية الكلاسيكية، حيث يتفق مختلفون على المراحل الأقرب والمهام الأكثر إلحاحا، ينبغي على القوى الفلسطينية الاتفاق على الأفق البعيد ليمكن استعادة دينامية عملية. الاتفاق على النضال من أجل دولة لكل مواطنيها، بلا تمييز في الدين أو العرق، تستوعب من يرغب في العيش فيها. كلام طوباوي؟ بل رؤية إستراتيجية لا غنى عنها، وإعلانها بدل الإبقاء عليها في الهمهمات غير الرسمية، يوفر تماسكا للنضال الفلسطيني وإعادة ربط لكل عناصره، واستعادة لطبيعته النموذجية كتعبير عن قضية عالمية بامتياز، وإنسانية شاملة، لأسباب تكرر شرحها فلا تحتاج لمزيد.

إعلان ذلك وحده لا يكفي، ولا يعفي من سائر المهمات، ولكنه ضروري، بعدما تشرذمت الرؤية بين دولة مسخ، أبشع من البانتوستانات، وافتراق في المصائر بلا رجاء، يطحن فحسب ويجتر مشاعر المرارة واليأس ورغبة الانتقام المريضة... واندفاع إسرائيلي نحو انتحار جماعي.
"الحياة"

التعليقات