31/10/2010 - 11:02

حرب العراق ماذا أنجزت؟../ جميل مطر*

حرب العراق ماذا أنجزت؟../ جميل مطر*
تقول القاعدة العلمية إن السبب أو العنصر الذي يفسر كل الظواهر لا يفسر شيئاً. وعندما كنت أتصفح المقالات والدراسات التي نشرت لمناسبة مرور خمس سنوات على حرب العراق، خرجت بانطباع أن حرب العراق قد تكون، في نظر المئات من المعلقين هي العنصر الذي يفسر كل الظواهر، بدليل أنه ما من قضية دولية أو تطور سياسي واقتصادي وإرهاب وحرب ضده وانتعاش طائفي إلا وكانت الحرب ضد العراق العنصر المفسر أو المبرر لها. ما كان يخطر على البال أن قضايا ومشكلات بهذا العدد ستجتمع على شيء واحد هو الأصل فيها ولا شيء غيره.

قرأت لمن يقول إنه في خلال خمس سنوات هي عمر الحرب ضد العراق من ثماني سنوات هي مدة ولاية فلاديمير بوتين في الكرملين نهضت روسيا، وما كانت لتنهض بالسرعة والكفاءة والتأثير الدولي لو لم تكن الولايات المتحدة غارقة في حرب ضد العراق. فالحرب حسب هذا الرأي ساهمت في رفع سعر النفط والغاز وفرضت نوعاً من الهدوء في إقليم الشيشان برضا أمريكي وجهود دول عربية أدركت أن الصعود الجهادي تجاوز بسبب الوجود الأمريكي في العراق حدوداً كانت مرسومة أو متخيلة.

وفي خمس سنوات تراجعت شعبية الولايات المتحدة، ليس فقط في الشرق الأوسط، الإقليم الذي اختارته واشنطن لتحكم منه العالم أو لتهيمن عليه فتهيمن على العالم، وتراجعت أيضاً في أقاليم أخرى. واختلف المحللون والسياسيون على تحديد المسؤول عن تردي شعبية أمريكا. بين هؤلاء من ألقى المسؤولية على الرئيس بوش شخصياً أو إدارته، وبخاصة فريق الأمن القومي الذي ترأسه نائب رئيس الجمهورية ويضم عدداً من المتشددين عنصرياً ودينياً وإيديولوجياً، وهناك من ألقى بالمسؤولية على السياسة الخارجية الأمريكية كمحتوى وممارسات وسلوكيات.

أهون كثيراً أن يسجل التاريخ أن رئيساً بشخصه أو بحكومته مسؤول عن تدهور شعبية بلاده، إذ في هذه الحالة يظل الأمل قائماً في أن يوماً سيأتي يتوقف فيه تدهور الشعبية، وهو اليوم الذي يرحل فيه الرئيس الأمريكي وترحل معه إدارته. أما الثانية، أي مسؤولية السياسة الخارجية الأمريكية عن تدهور الشعبية بسبب سيطرة قوى اقتصادية أو دينية أو مصالح شرسة فهذه إن استشرى الاعتقاد بمسؤوليتها منفردة يصبح الأمر عندئذ لا يبشر بالخير. خذ مثلاً شعوبنا العربية حيث يسود الاعتقاد في قطاعات واسعة فيها بأن السياسة الخارجية الأمريكية مسؤولة عن حالة الكراهية لأمريكا السائدة في المنطقة. فما أكثر ما أصاب هذه الشعوب من إحباط وغضب بسبب دعم أمريكا لعدوان بعد عدوان على هذه الأمة وتدخل في شؤونها.

قد لا تنظر دول وشعوب كثيرة إلى السياسة الأمريكية هذه النظرة. بعضها يراها أحياناً، كما كنا نراها قبل نصف قرن أو أكثر برومانسية الأربعينات. كنا نراها دولة عظمى لم تمارس الاستعمار مثل دول أوروبا، إلى أن عرفنا أنها مارسته وتمارس نوعاً من أنواعه مجدداً ومحسناً وإن أقسى منه وأشد شراسة. وفي سنوات الحرب الباردة كانت شعوب أخرى في شرق أوروبا تنظر إلى أمريكا بعيون ملؤها الأمل أفاقت على نوع من الهيمنة ووجدت نفسها وقد انتقلت من الخضوع لحلف إلى خضوع مختلف لحلف آخر كما وجدت نفسها مجبرة على تبني فكرة اقتصادية واحدة، بمعنى آخر لم تختلف أمريكا الرأسمالية عن روسيا الشيوعية، كلاهما فرض على دول أوروبا الشرقية تحالفات وروابط والتزامات عسكرية وكلاهما أخضعها لفكرة اقتصادية واحدة، وأغلق كافة الأبواب والفرص أمام احتمال تجربة أفكار بديلة.

سمعنا في الغرب، وعلى لسان الرئيس بوش شخصياً، أن الحرب ضد العراق أطلقت شرارة الديمقراطية في الشرق الأوسط، وأنه إن كان لهذه الحرب سبب أول، قبل أسلحة الدمار الشامل والإرهاب فهو نشر الديمقراطية. وبعد سنوات خمس يقول الأمريكيون أنفسهم إن تطورات الحرب أجبرت الرئيس بوش على تأجيل تنفيذ رسالته المقدسة في الشرق الأوسط. وعلى الجانبين وجدنا من له مصلحة في دعم مختلف الآراء الصادرة من واشنطن حول الديمقراطية في الشرق الأوسط. الصحيح في الأمر، ولم يعترف به، الأمريكيون الرسميون، هو أن الحركة في اتجاه الإصلاح السياسي بدأت في المنطقة العربية قبل الحرب ضد العراق ولم يكن لبوش يد فيها. كانت النخب الإصلاحية تلتئم هنا وهناك، في داخل الأقطار العربية وخارجها، وبذل أفراد فيها تضحيات كبيرة ليصل صوتهم إلى الشعب. لم يكن الإصلاح الذي دعت إليه أمريكا وقيل إنها حاولت فرضه على حكومات المنطقة هو منشئ الإصلاح. أعتقد على العكس من ذلك، أنه كان اللجام الذي أوقف مسيرة الإصلاح الحقيقية، حين استطاعت القوى المناهضة للإصلاح إثارة المشاعر المعادية للحرب ضد العراق بين الإصلاحيين الوطنيين. عندئذ توقف الإصلاح وانتكست الديمقراطية إلى وضع أشد تدهوراً من أي وقت منذ حصول هذه الدول على استقلالها. لقد كانت السنوات الخمس من الحرب ضد العراق ابتداء من نشر فكرة إقامة ديمقراطية في ظل احتلال أجنبي، وفي ظل مذابح طائفية وبعد إلغاء الأحزاب السياسية وتطهير النخب، كانت سنوات نكسة لكل صاحب فكر ديمقراطي متقدم في العالم العربي.

وفي هذه السنوات الخمس اجتمعت على العقل العربي الحالم عدة كوابيس أيقظته من حلم جميل، حلم منظومة القيم الأمريكية واحترام القواعد الدستورية وقدسية خصوصية الفرد في أمريكا وعدالة القانون. قبل هذه السنوات الخمس، أي على امتداد مراقبتنا كشعوب حالمة بالقيم الأمريكية، لم يخل الأمر من تجاوز هنا وتجاوز هناك، ولكن كان الحلم أكبر من أن توقظه تجاوزات منفردة متباعدة. وفجأة في خمس سنوات سقطت منظومة القيم الأمريكية سقوطاً فادحاً فكانت مذابح بريمر السياسية والإدارية ونهب ثروات العراق التاريخية وإشعال الفتنة حسب ما قال هو نفسه، ثم جاءت أحداث التعذيب في أبو غريب والمحاكمات الهزلية التي أعقبتها، وكانت، ولا تزال، جوانتانامو، تاج الشوك على رأس المنظومة الجديدة للقيم الأمريكية، واختطاف المشتبه فيهم ونقلهم بالطائرات عبر أجواء دول حليفة وغير حليفة ليعذبوا في دول ثالثة. وتناقلت الصحف العربية، مثلها مثل صحف العالم الأخرى، أنباء حصول شركات أمريكية بعينها على امتيازات هائلة بسبب الحرب، واستشراء الفساد بين ضباط وجنود أمريكيين وانفلات جنود خواص ومرتزقة. عمت قصص الفساد حتى غطت أحياناً على قصص الفساد المحلي في الشرق الأوسط.

وفي السنوات الخمس اكتشف القراء العرب أن حرية الإعلام والتعبير في الولايات المتحدة ليست كما غرسها الأساتذة في عقول التلاميذ والأجيال الشابة، وهي بالتأكيد ليست النموذج الذي يسعى إلى تقليده الليبراليون العرب، أو غيرهم في أي مكان. ولن يكون ما نسب إلى الرئيس بوش شخصياً عن تهديده بقصف مقر فضائية الجزيرة المثال الأنصع على تدهور هذه القيمة في نظر الإدارة الحاكمة في أمريكا، فالأمثلة كثيرة ومنها مثلاً ابتكار أسلوب “الإعلاميين النائمين في حضن جنود أمريكا”، ولذلك لم يخرج من العراق تقرير إعلامي موضوعي عن مسيرة الحرب والقتل وهتك الأعراض هناك منذ اليوم الذي شنت فيه القوات الأمريكية مذبحة الفالوجا، وهي المذبحة التي فتحت أبواب العراق ليدخل منها انتحاريون من كافة أقطار العرب وفتحتها ليخرج منها أربعة ملايين مواطن عراقي لاجئين في بلاد أخرى، ولكن شهود على نموذج تطبيق الديمقراطية بالقوة العسكرية.

كثير جداً هو ما حدث خلال حرب السنوات الخمس في العراق، لا نتحدث فقط عن المليون قتيل أو أقل أو أكثر، ولا عن دمار العراق أمة وثروة، ولا عن أربعة آلاف قتيل أمريكي معترف بهم، غير قتلى آخرين لا تنشر أسماؤهم لأنهم “خواص”، يعني “أمريكيون ولكن....” ولا نتحدث عن مبالغ تجاوزت أرقاما لم نتعامل بمثلها من قبل، فصرنا نستخدم أبسطها إلى العقل مثل القول إن أمريكا تنفق 5000 دولار في الثانية على هذه الحرب. لأننا لا نفهم تماماً أرقام التريليونات.

حاولت تقدير الإنجازات التي حققتها إدارة بوش للأمة الأمريكية من وراء هذه الحرب وفشلت. تصورت أنه لابد وأن تكون الصناعة العسكرية انتعشت، وأن يكون جانب من المبالغ التي تنفق على الحرب في أمريكا لم تخرج منها فاستفاد بدورانها المواطن الأمريكي. تصورت أنه ربما أكدت هذه الحرب صورة أمريكا كقطب أوحد على الأقل لدى بعض القوى المحلية في أمريكا، مما كان يمكن أن يؤدي بالتالي إلى حشد وطني واقتصادي ينهض بالأمة وبأخلاقياتها، تصورت إنجازات كثيرة، ولم أجد دليلاً واحداً قوياً على أن إنجازاً واحداً على الأقل تحقق بشكل قاطع أو مؤثر، وبخاصة بعد أن بات واضحاً تدني احتمالات الخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة، وهي الأزمة التي يقول عنها اقتصاديون كبار في أمريكا وأوروبا، إنها بسبب الحرب ضد العراق.

ومع ذلك، هناك إنجاز لا يتحدث عنه الكثيرون، ربما لأنه ليس أمريكياً صرفاً. نعرف أن تاريخ الصراع العربي - “الإسرائيلي” شاهد على محاولات أمريكية حقيقية لتقليص رقعته وتقليل عدد المشاركين فيه، ونستطيع القول إن السياسة الأمريكية حققت نجاحاً لا بأس به إلى أن جاءت سنوات الحرب ضد العراق، وإذا بالصراع العربي - “الإسرائيلي” يصبح وللمرة الأولى صراعاً إسلامياً “إسرائيلياً”، بكل ما يحمله هذا التطور من احتمالات على أدوار جديدة لدول الخليج والمغرب العربي والدول الإسلامية جنوب الصحراء وباكستان في منظومة هذا الصراع الجديد القديم.

لمصلحة من سيكون اتساع رقعة الصراع مع “إسرائيل”، وهل سيبقى إنجازاً منفرداً ومحدوداً، أم كارثة أخرى تضاف إلى كوارث الحرب ضد العراق؟ هل يعني اتساع الرقعة تحولاً في استراتيجية أمريكا للصراع، أم أن الصراع صار جزءًا من استراتيجية أمريكية أوسع تغطي مساحات حتى الصين شرقاً وسيبيريا شمالاً؟ هذه وغيرها أسئلة ستجيب عنها تطورات هذه الحرب وحروب السنوات القادمة.
"الخليج"

التعليقات