31/10/2010 - 11:02

حصاد سنوات السلبية في السياسة الخارجية../ جميل مطر*

حصاد سنوات السلبية في السياسة الخارجية../ جميل مطر*
من أروع ما سمعت في وصف اليابانيين وسلوكياتهم، عبارة وردت على لسان دبلوماسي أجنبي، عاش بعض الوقت في اليابان. كنت أتحدث عن الإحصاءات التي تؤكد أن الياباني إنسان معمر ولا يصيبه إلا القليل جداً من أمراض الشيخوخة. وتدخل صديقي ليضيف إلى معلوماتي عن اليابان، فقال إن الياباني يتمتع بعضلات قوية في ظهره وسلسلة فقرية أشد ترابطاً ومرونة من سلاسل الفقرات عند شعوب أخرى. ويعود السبب في رأيه، وأتصور أنه اخترع السبب، إلى كثرة الانحناءات التي يؤديها خلال اليوم الفرد العادي في اليابان، فهي تتفوق بعددها وانتظامها وفوائدها كافة تمارين الرياضة التي يوصى بها لتقوية عضلات الظهر وتحسين أداء السلسلة الفقرية.

غريب أمر شعب اليابان، كان على مستوى الفرد ومستوى الأمة ككل من أشد أمم العالم عوداً وصلابة. استطاع أن يحافظ على وحدته رغم الطبيعة الجغرافية الصعبة، ورغم العنف الشديد والقسوة الفظيعة اللذين تعامل بهما الإقطاعيون على مر العصور مع رعاياهم وبين بعضهم بعضاً. واستطاعت الأمة اليابانية في مرحلة من مراحل نهضتها أن تحسن الاختيار والقرار حين سلمت نفسها لطبقة أو فئة بعينها قادتها إلى مصاف القوى العظمى. وفي مرحلة أخرى كانت تحارب وتتوسع وتنشئ الإمبراطورية وتحارب إمبراطوريات غربية، وكانت أيضاً تفاوض وتساوم وتسود، خلاصة الأمر كانت أمة قوية تتمتع بعمود فقري من الفولاذ.

هذه الأمة ذاتها، وبالرغم من أن الفرد فيها لايزال يتمتع بصحة ممتازة، اختارت، منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية أن تسلك سلوك السلبية المطلقة في إدارة شؤونها. فضلت مثلاً أن تعيش لمدة تزيد على خمسين عاماً بدستور غير شرعي، وبعبارة أدق، عاشت راضية وسعيدة في ظل دستور “غير دستوري”. لم تتأفف أو تتذمر أو تتمرد، كما يفعل شعب العراق بكافة فئاته منذ أن وضعت دستوره قوة الاحتلال، وهي نفس قوة الاحتلال التي وضعت منذ خمسين عاماً أو يزيد دستور اليابان.

كان الاتجاه الأمريكي، أو الاقتناع الياباني فيما يبدو، يميل إلى أن تكون اليابان بعد هزيمتها العسكرية أمة تجارية طالما قرر الآخرون لها أن تنسى الحرب والمقاومة والسلاح وتعيش هي وإقليم شرق آسيا في ظل سلم أمريكي. ولا يوجد شك كبير لدى أي محلل سياسي، أو عالم من علماء السياسة في الغرب، بل وفي اليابان ذاتها، في أن هذا الصرح التجاري المالي الياباني يسقط، وتنهار اليابان، إذا وقعت أزمة حادة في النظام المالي الأمريكي. كذلك لا يوجد شك لدى خبراء الاستراتيجية في أن اليابان، بوضعها الراهن وافتقارها إلى “عمود فقري قوي” قادرة على صلب عودها في حال انسحاب مفاجئ لقوات أمريكا من أوكيناوا ومن مياه غرب المحيط الهادي وقواعدها العسكرية المنتشرة في جنوب شرق آسيا.

اعتمدت اليابان، فكراً وسياسة واقتصاداً، على ظروف دولية صنعها النصر الغربي على دول المحور في الحرب العالمية الثانية، وعلى ظروف مكملة توفرت بفضل إصرار الولايات المتحدة على شن حرب باردة مع الاتحاد السوفييتي كعدو حل على الفور محل دول المحور، وصنعتها حاجة أمريكا، واليابان معاً، إلى أن تتحمل الولايات المتحدة مسؤولية الدفاع عن اليابان كاملة مقابل “نزع السياسة” فيها، واعتناق السلبية، أي “اللاسياسة” منهجاً وأسلوب تعايش مع العالم الخارجي.

وعندما حانت نهاية الحرب الباردة بانسحاب الاتحاد السوفييتي من الصراع قبل انفراطه، ساد التوقع أن تعيد اليابان النظر في سياستها، أو بمعنى أصح، لا سياستها، كان المطروح في ذلك الحين هو أنه بما أن النظام الدولي ينتقل من نمط القطبين إلى نمط القطب الواحد، فالمنطقي أن الدول جميعاً، وليست اليابان فقط، سوف تعيد النظر في سياساتها وبخاصة تلك السياسات التي تتعلق بالدفاع والأمن الدوليين والروابط الوثيقة بالولايات المتحدة والاستمرار في الاعتماد على دعمها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.

ولم تكن اليابان وحدها الدولة التي لم تفكر في إعادة النظر في سياساتها، أو ربما فكرت وقررت الاستمرار في ما تعودت عليه على امتداد أكثر من نصف قرن، فقد رأينا دولاً كثيرة ترفض البحث عن أساليب جديدة لإدارة علاقاتها مع الولايات المتحدة، وتابعنا في الوقت نفسه جهوداً أمريكية حديثة ليس فقط لتعميق اعتماد الحلفاء عليها، ولكن أيضاً توسيع دائرة الحلفاء رغم عدم وجود عدو يستحق هذا التحالف وهذه الجهود. كان هدف واشنطن في ذلك الحين تثبيت أحاديتها وترسيخ مكانتها كمركز إمبراطوري. وعندما شعرت أمريكا بتردد متزايد من جانب الحلفاء، وبخاصة فرنسا وألمانيا، وتأكد لها تبرم عدد أكبر منهم واحتمال انفراط الحلف، عادت الجهود تتركز على البحث عن عدو “فوري” ليحل محل العدو الذي انسحب.

وقع اكتشاف الإسلام أو جانب منه أو طرف فيه عدواً مناسباً، وهنا زال أو تقلص الحرج الذي شعرت به دول حليفة لم تقتنع شعوبها بحجج الاستمرار في حلف لا يقابله على الناحية الأخرى عدو مناسب، وزال بعض الحرج الذي شعرت به قيادات في الطبقة السياسية الأمريكية بسبب رفض قطاعات مهمة في الشعب الأمريكي أفكار التوسع والهيمنة الإمبراطورية باعتبارها تتعارض مع القيم الجمهورية.

ورغم التطورات التي انتهت إليها فكرة الإرهاب وما آلت إليه الحرب العالمية ضد الإرهاب، إلا أنه مازال كثيرون بعيدين عن الاقتناع بأنه في مقدور اليابان أن تواصل التمسك بسياسة “اللاسياسة”، وأن ترفض التخلي عن “لا سلبيتها” كطرف في المجتمع الدولي. ومع ذلك مازلت أتوقع أن تحاول الطبقة الحاكمة في اليابان قدر الإمكان الاحتفاظ بالوضع القائم إلى أطول فترة ممكنة بحجج كثيرة أورد هنا القليل منها:

أولاً: أن النظام الدولي يبدو كما لو كان يتجه بسرعة، وربما بشكل مفاجئ، نحو نظام ثنائي التحالفات، وبخاصة بعد أن كشفت روسيا عن نوايا، ثم عن استراتيجيات مهمة وخطيرة، وتحديداً في قضايا الدفاع والطاقة وتوسيع نفوذها السياسي.

ثانياً: أن الصين، رغم المرونة الفائقة التي تتعامل بها دولياً والزحف المتواصل نحو مواقع سياسية واقتصادية لم تصل إليها من قبل، مثل دول عديدة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، فإنها لا تخفي أنها تجد نفسها، رغم شوائب الماضي، أقرب كثيراً إلى روسيا سياسياً وعسكرياً منها إلى الولايات المتحدة والغرب عموماً.

ثالثاً: أن الصين مرشحة خلال الأعوام الثلاثين أو الأربعين القادمة لقلاقل واضطرابات شديدة بسبب تسارع معدلات النمو الاقتصادي والثورة الناشبة في نظامها الطبقي. في إطار هذه الاحتمالات يتوقع اليابانيون أن تعود الصين إلى رفع شعارات قومية بهدف حشد كافة طوائف الشعب عند الأزمات الاجتماعية الحادة. ولن تجد الصين قضايا مثيرة للمشاعر القومية أقوى من الخيانة التايوانية والعلاقة مع اليابان التي مازالت تمارس الإمبريالية باحتلالها جزر سينكاكو Senkaku الصينية وهي جزر تابعة حالياً لمقاطعة أوكيناوا اليابانية التي تحتل القوات المسلحة الأمريكية مساحات واسعة فيها.

رابعاً: ان الهند، رغم نموها المتسارع، سوف تبقى قوة عسكرية محدودة الفعل. ويتوقع اليابانيون كغيرهم من الآسيويين أن يستمر الرأي العام الهندي مناهضاً لأمريكا بحكم تاريخه مع الاستعمار الغربي وتركيبته الاجتماعية والدينية، بمعنى آخر، لا يتوقع اليابانيون أن تلعب الهند، ولو بعد عقود، دوراً مهماً في تشتيت الجهود الدفاعية والأمنية الصينية.

خامساً: مازالت كوريا الشمالية تسبب أشد القلق لليابان، ليس فقط لأنها تملك سلاحاً نووياً ولديها صواريخ قادرة على حمل هذا السلاح والوصول به إلى اليابان، بل وإلى مسافات أبعد، ولكن لأن السلبية اليابانية لم تفلح في إزالة التوتر في العلاقات، وهي ليست جفوة بين حكومات، وإنما بين شعوب، وتضرب بجذورها في التاريخ، وبخاصة مرحلة التوسع الإمبريالي الياباني حين كانت اليابان تستخدم أبشع صور التعالي العنصري ضد الشعبين الكوري والصيني.

كثيرون لا يخالجهم الشك في أن السلبية اليابانية في علاقاتها الإقليمية والدولية تتحمل وحدها الجانب الأعظم من المسؤولية عن التوتر الشديد الذي سوف تعاني منه منطقة شرق آسيا خلال العقود المقبلة، وهي المعاناة التي ستخلف آثارها على استراتيجيات الدول العظمى، وبخاصة روسيا والولايات المتحدة والصين بعد ثلاثين أو أربعين عاماً. وكثيرون يتمنون على المتخصصين في شؤون السياسة الخارجية المصرية وممارسين ومحللين أن يقارنوا بين المنهج الذي تبنته مصر في السنوات الأخيرة والمنهج الياباني الذي تبنته منذ خمسين عاماً أو يزيد. وفي ضوء المقارنة ليتهم يقرأون المستقبل.
"الخليج"

التعليقات