31/10/2010 - 11:02

حصاد واشنطن في أمريكا اللاتينية/ عبد الإله بلقزيز

حصاد واشنطن في أمريكا اللاتينية/ عبد الإله بلقزيز
أنفقت الولايات المتحدة شطراً كبيراً من الزمن في مقاومة المد الوطني والثوري في أمريكا اللاتينية أخذ منها سنوات الستينيات والسبعينيات وبعض الثمانينيات. نبهتها الثورة الكوبية إلى سخف الاستهانة بقدرات المجموعات المسلحة في القارة على قلة أعدادها، فالمقاتلون المعدودون، الذين قادهم فيديل كاسترو في سلسلة جبال السييرا مايسترا، سرعان ما تحولوا إلى جيش كبير منظم زحف على هافانا وسيطر على السلطة. وفكرة الثورة الشاملة، التي أطلقها ارنستو تشي غيفارا في القارة بعد نجاح الثورة الكوبية، لم تلبث أن ترددت أصداؤها في كل مكان فالتقطتها حركات أخرى في بوليفيا والبيرو والأرجنتين والبرازيل والشيلي.. الخ. في الأثناء انتبهت الإدارات الأمريكية إلى تصاعد مشاعر العداء لها في أوساط مجتمعات القارة، وحسبت كبير حساب لاحتمال صيرورة تلك المشاعر قابلية نفسية لاستبطان فكرة الثورة والانخراط في مؤسساتها السياسية والقتالية، وهو عين ما حصل.

فبعد نيف وعقدين من سقوط كوبا في أيدي الثوار اليساريين، ستسقط نيكاراجوا في أيدي ثوار “الجبهة الساندينية”. ومع أن التحالف السانديني تألف من طيف واسع من القوى الاجتماعية والسياسية (بما فيها الكنيسة وخاصة قوى “اللاهوت التحرري”) إلا أن القيادة عادت إلى اليساريين في المطاف الأخير، وهم أشد أعدائها. وكما ردت الإدارة الأمريكية على ثورة كوبا ونظام كاسترو بالحصار الاقتصادي الخانق وبتشجيع قوى الثورة المضادة، كذلك ردت على الثورة الساندينية ونظام دانييل أورتيجا بدعم قوى الثورة المضادة ممثلة في “الكونتراس”.

ولئن كانت أمريكا اللاتينية لم تشهد من الثورات المسلحة الناجحة إلا ثورتين “كوبا ونيكاراجوا” إلا أن سيل الثورات ما توقف فيها طيلة ربع قرن. ومما أسهم في اشتدادها وتوسعها وصيرورتها الشكل الوحيد للتغيير السياسي امتناع الخيار الديمقراطي على مجتمعات أمريكا الوسطى والجنوبية بسبب سلطة الفاشيات العسكرية المدعومة من الاستخبارات الأمريكية، وجنوح تلك الفاشيات- المعزولة والفاقدة لأية شرعية داخلية- إلى ممارسة قمع دموي جماعي ما كان يمكن الرد عليه سوى بنظيره: العنف المسلح وإذا نجحت قيادات الحركة الثورية في القارة في توظيف رمزية أبطال النضال الوطني والثوري “زاباتا، ساندينو، جيفارا” في تجييش مشاعر شعوبها وربط حركتها بمقدماتها الداخلية القومية- رداً على ادعاءات أمريكا بأنها حركات مشدودة إلى مخططات خارجية: سوفييتية أو صينية- فقد نجحت، في المقابل، في استنزاف الأوليغارشيات العسكرية الحاكمة ووضع مصالح الشركات الأمريكية أمام تهديد جدي بتصفية الكثير منها.

ولم يكن صحيحاً أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة- منذ إدارة ايزنهاور حتى إدارة ريجان- لم تقف سوى ضد الحركات الثورية المسلحة فقط، وأنها كانت تستطيع التفاهم مع معارضات سياسية مدنية، فالتجربة تقيم الدليل على أن واشنطن وقفت موقف دعم استراتيجي لحلفائها منذ الفاشيين العسكريين ضد أية حركات تهدد سلطانهم الدموي، وضد أي شكل من التغيير السياسي حتى وان أتى بالوسائل الديمقراطية السلمية. واعادتهم الى السلطة- حين خرجوا منها بأصوات الشعب- بهندسة انقلابات عسكرية وتمويلها وحمايتها.

المثال المرجعي ما جرى في التشيلي نجحت القوى الديمقراطية واليسارية المتحالفة في الوصول إلى السلطة عبر الاقتراع، في العام ،1970 لتشكل حكومة “الوحدة الشعبية” بزعامة الرئيس سالفادور الييندي. لكن الشركات الاحتكارية الأمريكية، خاصة في قطاع التعدين مولت، تحت وطأة الخوف على مصالحها واحتكاراتها من التأميم، عملية انقلاب فاشي رجعي على النظام الجديد قاده- بدعم صريح مكشوف من المخابرات المركزية الأمريكية، الجنرال الفاشي بينوشيه انتهى إلى الإطاحة بحكومة الوحدة الشعبية وتصفية رئيسها الييندي في العام ،1973 وإطلاق شلالات من الدماء في معسكرات الاحتجاز الجماعي كالملاعب وفي الساحات العامة لسانتياجو.

ولم يلبث أن حصل، بعد ربع قرن، شيء قريب الشبه من ذلك، وان لم تكن نتائجه مماثلة: وصل هوجو تشافيز الى رئاسة فنزويلا باقتراع شعبي كثيف لمصلحته ألحق أشنع هزيمة بحلفاء الإدارة الأمريكية في كاراكاس. وبدأت الأخيرة تستشعر مخاطر سياسته النفطية والإقليمية على مصالحها لتبدأ معها فصول الضغط المختلفة: الانقلاب عليه، وإعادة الشعب له إلى السلطة، والضغط السياسي الخارجي، والتهديد بالحصار، تحريك الأدوات المحلية من قوى الثورة المضادة، ثم تجريب إمكانية إسقاطه عن طريق “الثورة المدنية” والاضراب المفتوح والعصيان- على مثال ما سيقع في جورجيا ضد نظام ادوارد شيفاردنادزه وفي أوكرانيا على نحو خاص، لكن نظام تشافيز صمد من خلال العودة الى الشعب وتحدي أمريكا وحلفائها بالاستفتاء على نظامه لتنكفئ مكرهة خائبة.

نعم، أجبرت الإدارة الأمريكية- تحت وطأة اشتداد حركة النضال الديمقراطي في مجتمعات أمريكا اللاتينية- أن ترفع حمايتها عن الاوليغارشيات العسكرية الفاشية الحاكمة، وان تسلم بالتطور السياسي الديمقراطي أملاً في أن تصل النخب الليبرالية المرتبطة بها الى السلطة، ولقد وصلت في فترة تمتد من النصف الثاني من الثمانينيات حتى مطلع القرن الحالي في الأغلب الأعم من دول القارة، لكن حقبة نفوذ تلك النخب تنصرم اليوم تدريجياً، فبعد فنزويلا والبرازيل، هاهي بوليفيا تشهد نظاماً جديداً معادياً لأمريكا يصل إلى السلطة، وها هي التوقعات تتحدث عن احتمال نجاح الاشتراكيين في الأرجنتين وفي المكسيك، وها هي قلعة كوبا المحاصرة تخف لاستقبال رموز القارة الجدد فتجد فيهم المتسع للخروج من العزلة. ها هي، إذن، لحظة خروج أمريكا اللاتينية من القفص الأمريكي تأزف وتؤذن معها لحظة اعتراض سياسي جديد على السياسات الأمريكية، في فنائها الخلفي وعلى حدودها المباشرة، بأن تتحول إلى سياسة أمريكية لاتينية ثابتة تجاه واشنطن.

حين نسمع تشافيز يشتم رئيس أمريكا الحالي، ويصفه بأقذع الألفاظ، كما فعل زعيم كوبا سابقاً، وكما يفعل رئيس بوليفيا الجديد، لن نختلف في أنه يفعل ذلك محمولاً على منزع شعبوي حاد. ولكن من العدل أن نتفهم دواعي ذلك، وهي لا تستبين إلا بالعودة إلى ذلك المخزون الهائل من الحقد الجماعي لشعوب أمريكا اللاتينية على ساسة واشنطن واحتكاراتها. حقد يتجاوز تصريحات السياسيين ومقالات الصحافيين إلى الأدب والفن، لا، لعله يعود إلى مئات السنين: ففي جنوب القارة الأمريكية فقط، أمكن لقسم من السكان الأصليين (الهنود الحمر) أن يفلتوا من الإبادة الجماعية. رئيسا فنزويلا وبوليفيا من حفدتهم.

التعليقات