31/10/2010 - 11:02

حول صورة الدولة الفلسطينية في السجال الإسرائيلي/ أنطوان شلحت

حول صورة الدولة الفلسطينية في السجال الإسرائيلي/ أنطوان شلحت
لا يكاد يمرّ شهر في إسرائيل دون أن يطالعنا فيه "مؤشر" جديد يفحص مواقف الرأي العام من مختلف القضايا. وثمة أيضًا مؤشرات سنوية تم استحداثها في السنوات الأخيرة على شاكلة "مؤشر الديمقراطية الإسرائيلية" و"مؤشر العلاقات بين المواطنين اليهود والعرب في إسرائيل" وغيرهما.

على صلة بالسياق الذي ننوي أن نخوض فيه- صورة الدولة الفلسطينية في السجال الإسرائيلي- أظهر هذا المؤشر الأخير للعام 2004 أن 72 في المئة من السكان اليهود مؤيدون لفكرة "دولتين لشعبين"، وأكدوا بالنسبة ذاتها أن الحضارة العربية "ذات قيمة ويمكن التعلم منها كثيرًا".

وفي القراءة المخصوصة لمعدّ المؤشر، أستاذ علم الاجتماع الإسرائيلي سامي سموحة، فإن الإسرائيليين اليهود "لم يتحوّلوا إلى مجتمع أكثر تطرفًا، لكنهم باتوا يبدون مواقف متشدّدة تجاه العرب منذ اندلاع انتفاضة الأقصى" في أيلول/ سبتمبر 2000، ورغم ذلك فإن "أغلبيتهم صارت تؤيد دولة فلسطينية إلى جانب الدولة اليهودية وتنظر بعين الرضا والتقدير إلى الحضارة العربية"، على حدّ قوله.

في معطى الـ72 بالمئة السالف وفي ما يقوله "سموحة" تعقيبًا عليه ما قد يحيل، للوهلة الأولى، إلى أن غالبية اليهود الإسرائيليين باتوا يستبطنون/ يذوّتون فكرة "الدولة الفلسطينية المستقلة" إلى جانب دولة إسرائيل داخل استبطانهم على وجه العموم لفكرة "دولتين لشعبين".

بيد أن استطلاعًا آخر أجراه المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- "مدار"- ونشرت نتائجه أخيرًا يوضّح كم أن فكرة الدولة الفلسطينية ليس فقط أنها لا تزال غائمة بل وغير منطوية أيضًا على أية ملموسيات أو ملامح جوهرية بالنسبة لتلك الغالبية العظمى.

فبينما أظهر هذا الاستطلاع أن مسألة إقامة الدولة الفلسطينية (المستقلة) دون تحديد أي من ملامحها جاءت في المرتبة الثالثة ضمن لائحة القضايا الأكثر صعوبة على الحل في إطار النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني (في تقدير 18 بالمئة من المستطلعين)، وذلك بعد القدس- 29 بالمئة واللاجئين- 20 بالمئة، في المرتبتين الأولى والثانية، وقبل المستوطنات- 16 بالمئة والحدود- 15 بالمئة، في المرتبتين الرابعة والخامسة، قال 50 بالمئة من المستطلعين إنهم يعارضون رغبة غالبية الفلسطينيين في إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حزيران 1967، فيما قال 15 بالمئة منهم إنهم يميلون إلى معارضة ذلك، ما يعني أن 65 بالمئة من السكان اليهود يعترضون على قيام دولة فلسطينية حسب رغبة غالبية الفلسطينيين أو في حدود حزيران 1967.
[في نطاق التعاطي مع السؤال: "ينشد غالبية الفلسطينيين إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حزيران 1967. هل توافق أم تعارض هذا النشدان؟"، توزعت الأجوبة من جانب المستطلعين على النسب التالية: أوافق تمامًا- 13 بالمئة، أميل إلى الموافقة- 21 بالمئة، أميل إلى المعارضة- 15 بالمئة، أعارض تمامًا- 50 بالمئة، لم يجيبوا- 1 بالمئة].

في السياق الذي نكتب عنه وبالعطف على ما تقدّم فإن هذه النتيجة بالذات تبدو هامة، لكونها تعبّر دون روغان عن أن التأييد الإسرائيلي لمبدأ الدولتين ما زال يفصله بون شاسع عن التأييد المرتجى لجوهر الدولة الفلسطينية المستقلة- التأييد الذي ينطوي على قدر نسبي من العدل ولكن على قدر مطلوب من الاستجابة لرغبة الأكثرية الفلسطينية.

يصعب العثور في السجال الإسرائيلي واليهودي تحديدًا على ما يمكن اعتماده أساسًا لإصدار حكم عام حول "صورة الدولة الفلسطينية" في هذا السجال. وقد بات من "الأسرار المفضوحة" أن أي حضور للصور العربية المختلفة في السجالات الثقافية الإسرائيلية كان ولا يزال مأسورًا بـ"الحاجة" اليهودية إلى هذا الحضور. ولذا فهو يظل، أولا ودائمًا، مغلّفًا بمجموعة من الأحكام هي أقرب إلى البدهيات أو المفهوم ضمنًا. وبالتالي فإن الاستثناء الوحيد يبقى من نصيب الحضور المتسلل من الشقوق التي تصيب "الإجماع" أو البدهي.

مع ذلك ليس من المبالغة الاعتقاد بأن حضور "فكرة الدولة الفلسطينية" في ضبابيتها السالفة داخل هذا السجال، يرتبط الآن أكثر شيء بفكرة "الحفاظ على الدولة اليهودية"، من جهة وفكرة الانفصال عن الفلسطينيين إلى ناحية تحصين أسوار الدولة اليهودية، من جهة أخرى.
ولعلّ الفكرة الأخيرة مستمدّة، بكيفية ما، من فكرة "السور" التي هجس بها ثيودور هرتسل في مؤلفه "دولة اليهود" كما من فكرة "الجدار الحديدي" التي هجس بها زئيف جابوتنسكي.
وإننا نشهد في الآونة الأخيرة تأييدًا لفكرة الدولة المستقلة على خلفية خطة الانفصال أو فك الارتباط التي هجس بها أريئيل شارون.
بيد أن خطة أريئيل شارون للانفصال عن قطاع غزة وأجزاء من شمال الضفة الغربية لم تولد من فراغ، أو بكلمات أخرى لم تولد من منطلق الميل إلى تأييد حق الفلسطينيين في دولة مستقلة، وإنما بتأثير دوافع محدّدة يستحيل التغاضي عنها. وإذا كان شارون قد احتفظ لنفسه بمهمة تزويق الخطة أو مكيجتها بغية تسويقها على أتمّ وجه في الخارج وخصوصًا لدى الإدارة الأميركية، كما يمكن الاستشفاف من خطاباته وتصريحاته الشتيتة، فإنه في موازاة ذلك ترك "مهمة" وضع الخطة في سياقها المحدّد إسرائيليًا وإقليميًا لمجموعة من مستشاريه. ولا بدّ من إعادة الأذهان، في هذا الشأن، إلى التصريحات التي أدلى بها مساعده الأقرب، دوف فايسغلاس، لصحيفة "هآرتس" في صيف 2004 وما زالت أصداؤها تتردّد إلى الآن، وفي صلبها أن خطة الانفصال جاءت لتسدّ الطريق على أية تسوية نهائية للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني وفق قرارات الشرعية الدولية. وهذه الطريق تسدّها، في الوقت ذاته، ضمن عوامل أخرى، رسالة الضمانات الأميركية بخصوص التسوية السالفة.
وقد عاد على أساس هذه الدوافع المحامي يورام راباد، المقرّب هو أيضًا من شارون والذي ترأس طاقم "الليكود" لمفاوضات توسيع الحكومة مع حزبي "العمل" و"يهدوت هتوراه"، بقوله لصحيفة "يديعوت أحرونوت" في خريف 2004 إن من يعتقد بأن شارون ينوي تطبيق مبدأ الانفصال على مناطق (فلسطينية) أخرى عدا غزة وشمال الضفة يرتكب خطأ فادحًا، ما يعيدنا إلى التوصيف الذي سبق خلعه على الخطة الأصلية بكونها "خطة الانسحاب من غزة، أولا وأخيرًا"!.
في الإمكان طبعًا أن نقيم فيصلاً بين الدوافع الذاتية لخطة الانفصال، التي تشمل ما تنطوي عليه مواقف شارون من عناصر ثابتة ومتغيرة، وبين الواقع الموضوعي الذي يمكن أن تتأتى عنه وقائع جديدة، مغايرة، فور وضع الخطة على محك التطبيق للانطلاق بها قدمًا. ولأن استشراف هذه الوقائع، من نقطتنا الزمنية الراهنة، لن يعدو كونه أكثر من "رجم بالغيب"، فإن من المفيد أكثر أن نضع أمام القارىء بعض مستحصلات الدوافع الذاتية.

بادىء ذي بدء، نطرح السؤال التالي: هل يملك شارون مفهومًا كاملا متكاملا لتسوية النزاع مع الفلسطينيين، بصورة تعطي مشروعية للاعتقاد بأن تكون الخطة مرحلة واحدة منه وقيام دولة فلسطينية مستقلة مرحلة أخرى، أم أن في نيته الاكتفاء بهذه الخطة فقط ؟.
لقد أوضح شارون مرات عديدة أنه، وفقًا لمفهومه (إزاء النزاع)، يستحيل التوصل إلى حل دائم مع القيادة الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات. ويبدو كذلك أنه يشك في إمكانية الوصول إلى حل دائم مع أية قيادة فلسطينية (في المستقبل). ولذا فمن الواضح أنه لا يسعى البتة إلى "حل بالاتفاق" ويؤثر "خطوات أحادية الجانب".
في هذا الإطار أيضًا ثمة فارق كبير بين "خطة كاملة تسعى إلى انفصال أحادي الجانب (شامل) عن الفلسطينيين"، ومن نافل القول إن مثل هذه الخطة غير قائمة، وبين خطة شارون، المطروحة على الأجندة والتي تتغيّا انفصالا كاملا عن قطاع غزة، غير أنها في الضفة الغربية لا تغيّر الوضع تغييرًا جذريًا. في أكثر من مناسبة قال القائم بأعمال رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهود أولمرت، إنه يسعى إلى "انفصال كامل عن الفلسطينيين". لكن من غير الواضح بتاتًا ما إذا كان رئيس حكومته ذاته شريكًا في هذا المفهوم.
فوق ذلك كله ثمة مكان للافتراض، وهو ما سبق أن ألمح إليه كثيرون، بأن شارون إنما يسعى إلى تطبيق انفصال كامل عن قطاع غزة وانفصال جزئي (للغاية) عن الضفة الغربية، من أجل تعزيز سيطرة إسرائيل على أجزاء من الضفة الغربية ومن أجل تكريس المستوطنات في هذه الأجزاء.

قيل منذ قديم الزمان إن "الحاجة أم الاختراع". أما في "مبادرة الانفصال" فإن "الحاجة" إلى "دولة يهودية شبه نقية من العرب" أو على وجه الدقة "دولة يهودية مع نسبة مضبوطة من العرب" لا تعدّ أمّا لأي اختراع، بل هي عودة مكرورة إلى "تقليد صهيوني عريق" في سيرورة النزاع، تمثل في حوسلة "الجغرافيا" (أي تحويلها إلى وسيلة) لخدمة غايات "الديمغرافيا".

وإذا كانت المصادفة قد جعلت أول "دعوة" للانفصال عن المناطق الفلسطينية من جانب الوزير في حكومة شارون المقرّب جدًا من رئيسها، إيهود أولمرت، في العام 2003، محايثة لذكرى قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العمومية في الأمم المتحدة يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، فإن استعادة وقائع صهيونية ناجزة محاذية لذلك القرار من شأنها أن تنطوي على أكثر من عبرة ودلالة راهنية.

من تلك الوقائع، مثلاً، أن البحث في قرار التقسيم المذكور، من طرف الحركة الصهيونية، جاء على ركام من نقاشات حيال فكرة التقسيم ذاتها دجّجت، في نوع من الصيرورة، موقفاً يقبل بالتقسيم كمرحلة وقتية، لازمة، في سبيل تكريس ما يتضاد معه، جملة وتفصيلاً.

ويجدر هنا استعادة حقيقة تاريخية مؤداها أن التفكير الصهيوني إزاء الفلسطينيين في تلك الفترة (1947) كان قد تبلور تماماً حول غاية العلاقة العسكرية العدائية، من جهة، وحول غاية بسط السيطرة الصهيونية على "فلسطين الكاملة"، من جهة أخرى. وهذا ما عبر عنه القائد الصهيوني الأعلى سلطة وقتذاك، دافيد بن غوريون. أكثر من هذا فإن بن غوريون نفسه جيَّش قبوله لاقتراح "لجنة بيل" حول تقسيم البلاد من سنة 1937 لصالح هذه السيطرة، عندما كتب يقول إن دولة يهودية في "جزء من فلسطين" (بموجب اقتراح "لجنة بيل") هي مرحلة في سياق أطول يفضي إلى "دولة يهودية في فلسطين كلها".
وفي أكثر من مناسبة ثار السؤال حول ما إذا كان قبول بن غوريون وتياره (تيار العمل) لقرار التقسيم من سنة 1947 صادقًا؟.

في إحدى هذه المناسبات سجَّل الباحث الفلسطيني وليد الخالدي، جواباً على هذا السؤال، حقيقتين أساسيتين هما :

الأولى- أن التقسيم أصبح الهدف التكتيكي لقيادة التيار الرئيسي في الحركة الصهيونية، منذ "لجنة بيل". إلا أن السنوات التي أعقبت ذلك شهدت انزياحاً عن هذا الهدف التكتيكي لصالح تأييد هدف "المعسكر التنقيحي" بزعامة زئيف جابوتنسكي، وهو إقامة دولة يهودية على ضفتي نهر الأردن بقوة السلاح. وهذا ما جرى التعبير عنه في "برنامج بلتيمور" الذي صاغه بن غوريون في 1942 . إلا أنه عاد، في 1946، وتبنى التقسيم بشكل تكتيكي.

الثانية- حذر بن غوريون زملاءه- كما أورد ذلك واضعو سيرته الذاتية- من أن قبوله التقسيم لا يندرج ضمن التنازل عن الدولة اليهودية في "فلسطين الكاملة" وإنما يشكل انتقالاً إلى ما أسماه بـ"الصهيونية العميقة" وقوامها مذهب التطبيق المتدرّج للأيديولوجية الصهيونية الكلاسيكية.

إذا أضيفت إلى هاتين الحقيقتين الخطط العسكرية المختلفة لإقامة "الدولة اليهودية" وطرد الفلسطينيين من وطنهم الأصلي، فإن النتيجة التي لا بد من استخلاصها هي أن قبول بن غوريون بقرار التقسيم من 1947 لم يكن صادقًا.
وإننا نجد مصداقًا لما يقوله الخالدي، من زاوية أخرى تستحق بدورها المزيد من البحث والاستقصاء، فيما تقوله الباحثة الإسرائيلية "أنيتا شبيرا" في كتابها "النضال الخائب" (صدر في 1977) من أن "تشكّل مناطق استيطان يهودية منعزلة أدى، في نهاية الأمر، إلى التنازل عن تلك المناطق من فلسطين التي لم تتشكل فيها أغلبية يهودية".
أما عالم الاجتماع الإسرائيلي "غرشون شفير" فقد كان، بشأن ما تقوله "شبيرا"، أكثر وضوحًا واتهامًا حين كتب يقول: إعطاء أفضلية للديمغرافيا (أغلبية يهودية في جزء من فلسطين) على الجغرافيا (أقلية يهودية مسيطرة على كل أجزاء فلسطين) تحوّل إلى ماركة متميزة للتيار المركزي في حركة العمل الصهيونية.

وتمثلت المصلحة الديمغرافية لحركة العمل في زيادة كثافة السكان اليهود. ونظرًا لأن الهجرة اليهودية لم تزود "الأعداد" المطلوبة فإنه لم يكن ممكنًا إحراز النتيجة المنشودة إلا عبر الاكتفاء بمنطقة سيطرة يهودية مقلصة نسبيًا. ورغم أن جميع الصهيونيين، بلا استثناء، كانوا في البداية من أنصار "أرض إسرائيل الكاملة" فإنه في سنوات الثلاثين (في 1937 ضمن سياق برنامج التقسيم للجنة بيل) وفي سنوات الأربعين (في 1947 ضمن التجاوب مع قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة) ظهرت جاهزية لدى جزء كبير من حركة العمل لقبول تقسيم البلاد بين دولة يهودية وبين دولة فلسطينية أو أردنية. هذه الجاهزية لم تكن ناجمة عن مسالمة متأصلة في قيم حركة العمل- حسبما يميل إلى الاعتقاد باحثون إسرائيليون كثيرون- وإنما كانت ناجمة بالذات عن ميولها الحربية.. ويمكن القول إن حركة العمل، من منطلق دفاعها العدواني عن المصالح الاقتصادية للعاملين اليهود، انتهجت إستراتيجية تقطيع أوصال السوق وإقصاء العمال العرب منه. واستهدفت هذه الإستراتيجية، بالأساس، تقليص المصاعب الاقتصادية التي كانت ماثلة أمام الاستيطان الصهيوني من جراء الواقع الديمغرافي الذي يشكل الفلسطينيون فيه أغلبية السكان (راجع كتابه: "الأرض، العمل والنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني" الصادر في 1989).

ما يقوله شفير يلوّح أيضًا، إلى حد بعيد، بالخلفية التي مهدت لاحتلال 1967، والذي يرى كثير من المؤرخين والباحثين، الفلسطينيين و"الإسرائيليين الجدد" على حدّ سواء، أنه جاء لكي يكمّل ما لم تستطع الحركة الصهيونية أن تنجزه في 1948.. غير أن هذا هو موضوع آخر لمعالجة ثانية.

لكن بوضعنا ما تقدّم من كلام أمامنا لا تبدو "دعوة" الانفصال أكثر من كونها برنامجًا آخر لإعادة انتشار تحتمه "ظروف موضوعية" ليست خافية على أحد. وإن أولمرت نفسه يؤكد، مع دعوته إلى "الانسحاب الأحادي الجانب"، أن "بيت إيل وعوفرا وجبال يهودا والسامرة هي (بالنسبة له) أرض إسرائيل.. وهي ليست للفلسطينيين، ولم تكن لهم البتة، بل لم تكن جزءًا من تاريخهم ومن ذكرياتهم".
وفي هذه النقطة بالذات سيبقى الصراع فيما يبدو على أشدّه، من ناحية أولمرت، حتى بعد "انسحابه" من طرف واحد.

كذلك سيبقى الصراع على أشدّه في هذه النقطة بالنسبة للتيار المؤيد للانفصال داخل صفوف الصهيونية الدينية من منطلق "الحفاظ على يهودية إسرائيل". فهذا ما عبّر عنه، مثالا لا حصرًا، مقال أحد منظري هذا التيار أخيرًا في مجلة "تخيلت" (عدد نيسان/ أبريل 2005).

لقد أكد هذا المنظر، يوسي كلاين هليفي، أن على الصهيونية الدينية الإقرار بأن مؤيدي الانسحاب ليسوا أقل إخلاصًا وحِرصًا على وحدة الدولة وسلامتها.

وأضاف أن الحد من التهديد الديمغرافي للأغلبية اليهودية، ودرء خطر حملة دولية لعزل إسرائيل، وتعيين حدود دفاعية متفق عليها، كلها أهداف تستوجب نقاشًا جادًا، ولا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها بصورة اعتباطية. من الممكن عدم الاتفاق مع رأي مؤيدي الانسحاب، لكنه لا يجوز دمغهم كـ"ما بعد صهيونيين" فقدوا إرادة النضال من أجل استمرار بقاء إسرائيل.

وفي رأيه تتوفر للصهيونية الدينية الموارد اللازمة لإعادة تأهيل نفسها واحتلال مكانها في قيادة دولة إسرائيل وقيادة الشعب اليهودي قاطبة. وعلى الرغم من أنها لم تنجح حتى الآن في إقناع أغلبية الشعب بتبني فكرة وحدة أرض إسرائيل كقيمة من القيم الأساسية للدولة، إلاّ أن الحركة (الصهيونية- الدينية) نجحت مع ذلك في خلق جمهور واسع ومخلص يمكن للمجتمع الإسرائيلي أن يتعلم منه الكثير، جمهور يُمثل قيمًا صهيونية كلاسيكية، ومن ضمنها: أهمية الرابطة اليهودية المتجددة بأرض إسرائيل، بغض النظر عن حدودها الدائمة، والدفاع عن الوطن، عن الدولة اليهودية، عن طريق الخدمة العسكرية، والإيمان بالمثال الصهيوني دون الانجرار وراء ما يُسمى بالصهيونية العصرية، وأهمية بِناء مجتمعات محلية قوية ترتكز إلى العائلة، ومركزية "أورشليم" (القدس) في التاريخ والهوية اليهوديين.

"طالما كانت حكومة إسرائيل مستمرة في العمل من أجل جمع شتات وطوائف الشعب اليهودي في دولتها اليهودية، ينبغي تقديرها واحترامها كتجسيد للتطلعات الصهيونية"، يؤكد كلاين هليفي مضيفًا أن الاستعداد للتسوية والمرونة تجاه حدود الدولة اليهودية "لا يُشكلان مقياسًا منطقيًا لهذا الالتزام من جانب الحكومة الإسرائيلية، فالجدل والخلاف داخل الحركة الصهيونية حول مسألة التسوية الإقليمية ليس بالشيء الجديد، بل نشأ منذ مطلع العشرينيات من القرن الماضي. والحكومة ذاتها التي تستعد حاليًا لإخلاء يهود من قطاع غزة، اتخذت مؤخرًا قرارًا بنقل الآلاف من أبناء طائفة الفلاشمورا (الأثيوبيين) إلى إسرائيل".


يمكن القول إذًا إن النقاش الراهني حول الانفصال وحول صورة الدولة الفلسطينية هو نقاش صهيوني- داخلي صرف، وبالتالي فلا ينبغي به أن يذرّ الرماد في عيون الفلسطينيين كافة، وبالتأكيد في عيون المناضلين من أجل الدولة الفلسطينية المستقلة التي نصّت عليها قرارات الشرعية الدولية.

(*) ظهرت صيغة موجزة من هذا المقال في موقع "الجزيرة نت"


التعليقات