31/10/2010 - 11:02

دبلوماسية الجنوب../ كلوفيس مقصود

دبلوماسية الجنوب../ كلوفيس مقصود
شكل الثنائي البرازيلي - التركي تحفيزاً للذاكرة عندما قام مثلث نهرو - عبدالناصر - تيتو بالتأكيد على أهمية استقلالية القرار بمعنى التصدي للواقعية آنذاك بأن العالم منقسم إلى تحالفين لا ثالث لهما، مما أدى إلى قيام القوة الثالثة التي كانت إسهاماتها تعزز حركات التحرر الوطني من خلال السعي الدؤوب لنزع فتيل النزاعات القائمة والمتوقعة، بغية توفير المناخات الملائمة لجعل التحرر نقطة نحو بناء الدول وتطوير وتنمية المجتمعات.

صحيح أن الكثير من هذه الأهداف لم يتم إنجازها بما يتجاوب مع نبل وسلامة هذه الأهداف، إلا أنها دلّت على حيوية مقتدرة جعلت من الكرامة فعلاً يساهم في ترسيخ حق تقرير المصير لا للأوطان فحسب، بل للمواطنين أيضاً.

نشير في هذه المقدمة المختصرة جداً إلى أن المبادرة التي قامت بها تركيا والبرازيل في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني تمثل اختراقاً مميزاً لبلورة دبلوماسية الجنوب - جنوب وسط، وهو عالم آخذ في الخروج من وحدانية القطبية الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبالتالي السعي لأن لا تؤول تعددية القطبية إلى ما يقارب الفوضى، وسط عولمة تستولد تعقيدات متكاثرة ومرشحة لأن تستولد فوضى تم توصيفها من قبل المحافظين الجدد بـ “فوضى بناءة”.

من هذا المنطلق يكون من الضروري استيعاب المعنى التاريخي للمبادرة التي قام بها الثنائي التركي - البرازيلي من مداخلة فذة، بغية نزع فتيل ما قد تنطوي عليه العقوبات الصارمة المقترحة على إيران، وما تنطوي عليه من تداعيات، وما تفرزه من توترات ونزاعات لا يجوز الرضوخ لحتميتها.

هذا الاحتمال يبدو أنه كان الحافز الرئيسي الذي دفع الثنائي إلى سرعة التدخل ومعالجة الأزمة من خلال تقليص حدتها، ومن ثم إخضاعها باتجاه عقلنة الحل بدلاً من التصلب الذي قد ينقلب تحجراً عند إيران والدول الست أصحاب القرار المقدم إلى مجلس الأمن بهدف إنزال المزيد من العقوبات على نظام إيران المتسم بالحدية والعناد.

بما أن الدول الست خاصة الغربية منها تعتبر المبادرة التركية - البرازيلية بمثابة “تدخل ضار” كما وصفتها هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية، وكما يبدو لي جاءت المبادرة هذه مفاجأة اعتبرتها الدول الغربية تصدياً لاستئثارها بقرارات مجلس الأمن، وكون الولايات المتحدة على الأخص اقترحت أن لا تصر الدول العربية على إدراج بند “جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من السلاح النووي”، كون هذا من شأنه “تعطيل المفاوضات غير المباشرة بين “إسرائيل” ومنظمة التحرير”.

هنا أيضاً المبادرة التركية - البرازيلية تعتبر تصدياً غير مباشر لازدواجية المعايير التي جعلت السلاح النووي القائم والموجود بمنأى عن المساءلة، ناهيك عن المعاقبة.

وكان الرئيس أوباما قد أشار وبشكل حاسم إلى أنه يرغب بل ويؤكد أن إدارته ملتزمة بنزع جميع الأسلحة النووية بدءاً بالاتفاق الروسي - الأمريكي بإعلان تقليص متدرج للأسلحة النووية المتوفرة لدى كل منهما، وتأتي المبادرة التركية البرازيلية لتحريك هذا الموضوع الأشمل، وبالتالي نشوء مزيد من الضغوط على “إسرائيل” إن لم يكن فوراً فعلى الأقل تدريجياً.

لذا يبدو أن المبادرة التركية البرازيلية التي تقضي بنقل معظم اليورانيوم النووي من إيران إلى تركيا بغية تخصيبه للأهداف السلمية خاصة لعلاج الأمراض السرطانية إذا نجحت، ويبدو أنها لم تفشل وقد تنجح فهذا سوف يجعل من دبلوماسية الجنوب مؤهلة لأن تساهم عملياً في تعزيز فرص السلام المرتبط بمعالجات أكثر نجاعة في حل النزاعات في كثير من أقطار العالم.

أمام ما يحدث حالياً وأمام إمكانية الثنائي التركي - البرازيلي في تقليص فرص الصدام وتهدئة عناصر الحدة والتوتر بين كل من إيران والدول الغربية خاصة، ما الموقف العربي من هذا التطور المهم في العلاقات الدولية، والذي ينطوي على احتمالات واعدة، لأن وصول المبادرات إلى صيرورتها، أو على الأقل تمكنها من تقليص المخاطر، ألا يجدر بالدول العربية كافة وفي تنسيق ملزم وجدي في ما بينها أن تجعل المبادرة التركية البرازيلية تماثل ما فعله العرب بقيادة الرئيس عبدالناصر عندما تجاوب مع نهرو آنذاك في تأكيد استقلالية القرار وجعل الكرامة العربية فعلاً ممكناً؟

إذا كانت تركيا المفروض أنها عضو في الحلف الأطلسي تفرض استقلالية إرادتها على هذا الحلف، وإذا كانت البرازيل القريبة جداً من الولايات المتحدة بدورها تأخذ مبادرة مثل التي حصلت، وتتميز بجرأة التصميم، على أن الصداقة مع الدولة الأقوى لا تعني بالضرورة التجاوب التلقائي مع إملاءاتها، فإن كرامة استقلالية الإرادة والقرار هما التعريف الجديد للواقعية.. العربية أيضاً.
"الخليج"

التعليقات