31/10/2010 - 11:02

درس من الاتصالات السرية بين بريطانيا والجيش الإيرلندي../ خالد الحروب*

درس من الاتصالات السرية بين بريطانيا والجيش الإيرلندي../ خالد الحروب*
في الفترة ما بين 1973 و1993 حينما كانت تفجيرات الجيش الجمهوري الإيرلندي، الجناح العسكري لمنظمة «شين فين» في إيرلندا الشمالية، تشل مراكز المدن البريطانية من حين لآخر، كانت الحكومات البريطانية المتعاقبة في 10 داوننغ ستريت تحافظ على قنوات سرية مع قادة ذلك الجيش. على مدار عشرين سنة ورغم العداء الكبير والحملات الدعائية والإعلامية الموجهة ضد الجيش الجمهوري. كان دهاء الديبلوماسية البريطانية أكثر عقلانية من أن يترك للأمور على «جانب العدو» أن تتطور بعيدا عن التأثير المباشر فيها. ليس ذلك فحسب بل إن التفاوض والاتصالات السرية شملت أهم التشكيلات العسكرية الجمهورية حتى تلك المنشقة على الجيش الإيرلندي و «الشين فين». كان المنطق «الاتصالي والتفاوضي» البريطاني موقناً بأنه لا بد من خلق حالة «وحدة وتوافق» عند جانب «العدو» حتى يتسنى إقامة مفاوضات مستقبلية ناجحة معه. هذا هو الكشف المفاجئ لما يقوله جوناثان باول، أحد أهم المقربين من رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير منذ عام 1995، وذلك في كتاب حديث يثير ضجة كبيرة الآن في بريطانيا. باول انخرط مع بلير في ملفات سياسية حساسة عديدة لكن ربما كان أهمها متابعته لملف التفاوض مع «شين فين» والذي انتهى إلى اتفاق الجمعة الشهير عام 1998 ووضع حداً للصراع الدامي على شمال الجزيرة الأيرلندية.

ما يكشفه باول ربما توقعه كثيرون منهم صحافيون كانوا قد كشفوا جانباً من الاتصالات بين الحكومات البريطانية والجيش الجمهوري الإيرلندي، لكن هذه هي المرة الأولى التي تنكشف فيها الصورة شبه الإجمالية ومن موقع مسؤول كان من أهم المطلعين على الملف الإيرلندي. الأهمية السياسية والدرس البليغ الذي يحمله هذا الكشف هو حتمية «الاتصال بالعدو» كما يقول باول، ناقلاً ومكرراً مقولات قياديين ومسؤوليين في الطرفين المتعاديين. ما كان باستطاعة الجيش البريطاني أن يقوم به، مدعوماً من قبل كل أجهزة الاستخبارات البريطانية، («أم آي 6»، و «أم آي 5»)، هو مواصلة إعاقة عمليات الجيش الجمهوري وتسجيل نقاط عسكرية عليه، وربما إضعافه في مرحلة ما، لكن ليس القضاء المبرم عليه. ويذكر باول أن هذه كانت قناعة الاستراتيجيين في أجهزة الاستخبارات والتي شكلت لاحقاً أحد العوامل الضاغطة على صانعي القرار السياسي في الحكومات البريطانية ذاتها. في المقابل بدا الأفق العسكري والسياسي أمام الجيش الجمهوري نفسه مسدوداً بتزايد من دون الإيحاء بالأمل بأن مستقبل الخيار المُتبنى يقود إلى نتائج حاسمة. معنى ذلك، بالنسبة الى الطرفين، الوقوع في حالة الصراع العسكري التي ليس بمقدور طرف حسمها.

تقدم الحالة الإيرلندية الشمالية دروساً عديدة لحالات صراعية متعددة في العالم، رغم أن كل حالة بطبيعة الحال لها ظروفها المختلفة وجوانبها المميزة. لكن برغم التنوع واختلاف الظروف يبقى هناك جوهر أساسي برسم التطبيق في معظم الحالات وهو استيعاب منطق الأمر الواقع وعدم الوقوع أسرى لحالة الشلل والتفكير الرغائبي. الدرس الذي تقدمه الحالة الإيرلندية الشمالية، في المقام الأول، هو «ضرورة التحدث مع الإرهابيين»، و «المحتلين».

في معظم حالات الصراع العسكري غير المحسوم يتزايد ضغط الأكلاف على الأطراف كلها، وتضيق هوامش المناورة، وتفقد القضايا التي يجري الدفاع عنها شعبيتها الأولية، ثم يصير أن تتحكم اندفاعة الأحداث نفسها والمسار الذي ترسمه بصانعي السياسة وليس العكس. يصبح الساسة تابعين للمنطق الذاتي لتطور الأحداث على الأرض وليسوا صانعين لها، ويفقدون بالتالي عنصر «القيادة» إذ يتحولون عملياً إلى مُقادين. القيادة الحقيقية هي التي تقف في لحظة جرأة حقيقية لتتحدى المسارات الاعتباطية لتراكم الأحداث وترفض الانسياق غير الواعي خلفها وتقرر تغيير المسار أو تعديله أو تحديه.

في الشرق الأوسط هناك ثلاثة «نماذج» للانسداد القيادي والوقوع في أسر الوضع القائم وعدم امتلاك الجرأة لتجاوزه، وتتمثل في الاحتلال الإسرائيلي والاحتلال الأميركي للعراق والعلاقة بين معظم الحكومات العربية ومعارضاتها (السياسية أو العنفية). في الحالة الإسرائيلية، وكما يقر عدد مُتزايد من المحللين الاستراتيجيين المقربين من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أو العاملين السابقين فيها، هناك تحالف مع حالة العمى السياسي تجاه كيفية وآلية التفاوض مع الفلسطينيين. فهنا ما زال منطق «فرق تسد» التقليدي يسيطر على العقل الإسرائيلي، وهناك ظن ساذج بأن التفاوض مع نصف الفلسطينيين يمكن أن يؤدي إلى نتيجة عملية، هذا إذا فرضنا أن إسرائيل طافحة بحسن النيات، وأنها تريد حقاً السلام! يندرج مع إسرائيل في هذا الظن الساذج والسياسة الغبية، بخاصة بعد فوز حركة «حماس» بالانتخابات التشريعية عام 2006، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بما فيه بريطانيا نفسها. فهنا يغيب منطق ضرورة وحتمية خلق «وحدة وتوافق فلسطينيين» لا غنى عنهما من أجل أي خطوة حقيقية مستقبلية.

السياسة الفاشلة التي اتبعتها واشنطن وبروكسيل بعد فوز «حماس» تمثلت في عزل الحركة التي فازت ديموقراطياً، ومعاقبة من انتخبها، والتفاوض مع من خسر الانتخابات ومنحه شرعية خارجية ودولية. انخرطت لندن، الحكيمة في تعاملها مع الجيش الجمهوري الإيرلندي، في سياسة غير حكيمة صاغتها واشنطن وتل أبيب إزاء الفلسطينيين.

على صعيد نشاط «حماس» العسكري هناك الآن دعوات متزايدة للتفاوض المباشر معها والانتهاء من حالة العمى التي تتحالف معها القيادة الإسرائيلية. يعود هذا العمى إلى ما يزيد على عقد من السنوات ويمكن التأسيس له مع ترسخ بداية موجات العمليات الانتحارية سنة 1995، عندما عرضت «حماس» في بيانات متكررة استعدادها لايقاف استهداف المدنيين الإسرائيليين مقابل توقف إسرائيل عن استهداف المدنيين الفلسطينيين. منذ ذلك التاريخ وحتى هذه اللحظة و «حماس» تكرر العرض نفسه، وسواء اتفق المرء أو اختلف مع «حماس»، فإن ذلك الاستعداد الدائم ما زال بوابة الدخول لإيقاف نزف الدماء هناك.

وفي أكثر من مناسبة تفاوضية جانبية، إن عبر التدخل المصري أو غيره، كان من المعروف أن الطرف الإسرائيلي هو الذي كان يتردد في اللحظة الأخيرة إزاء الموافقة على هدنة راسخة تحيّد المدنيين من الطرفين. أرادت إسرائيل عبر رفضها تلك الهدنة أن تُبقي على زمام الأمور العسكري في يدها، فتشن حملة عسكرية هنا أو هناك متى تشاء وعلى من تشاء، إن في الضفة الغربية أو قطاع غزة، متذرعة باستهداف عناصر عسكرية، لكن غير آبهة بسقوط أضعاف عددهم من المدنيين الفلسطينيين. وبطبيعة الحال وكما كان متوقعاً كانت «حماس» وغيرها من الفصائل الفلسطينية ترد بشتى الوسائل ومن ضمنها تلك العمليات الانتحارية. ووقع الطرفان في أسر منطق الرد والرد المتبادل. والشيء المدهش هنا هو غياب المنطق المزدوج: «حتمية التحدث مع الخصم، وضرورة إيجاد جبهة موحدة عنده».

في الحالة العراقية هناك تشابه واختلاف في ذات الوقت عما هو عليه الوضع إسرائيلياً وفلسطينياً. فمن ناحية كان هناك تمترس وراء منطق القضاء المبرم على التنظيمات المسلحة العراقية، الأصولية وغير الأصولية، وتفادي ضرورة الحديث مع «العدو». هذا رغم تزايد المحاولات والأخبار التي تفيد عن اتصالات علنية وسرية مع تلك التنظيمات والجماعات. لكن من ناحية ثانية هناك قناعة شبه راسخة بضرورة خلق توافق عراقي عريض يتأسس عليه أي حل وشكل سياسي دائم بين العراقيين. فمن دون هذا التوافق لا يمكن ضمان أي مستقبل مستقر وآمن للعراق والعراقيين. ورغم أن الأطراف الأساسية التي تحمل هذه القناعة، وخصوصاً واشنطن ولندن، تملك ذات التأثير بشكل أو بآخر في الملف الإسرائيلي الفلسطيني، فإن هذه القناعة تغيب أو يتم تجاوزها في هذا الملف ويجري التمسك بالفكرة الواهية التي تريد أن تبني خطوات مستقبلية على واقع الانقسام الفلسطيني.

«النموذج» الشرق أوسطي الثالث يتجسد في طبيعة العلاقات غير الصحية والمتوترة بين الحكومات العربية ومعارضاتها. فغالب تلك العلاقات يقوم على محاولات إقصائية وعزل وأحياناً عدة قمع شديد. وعوض أن يتراكم منطق «ضرورة وحتمية الحديث مع الخصم» لأن ذلك يوفر على المجتمعات العربية وقتاً وجهداً وأحياناً دماً كثيراً مهدوراً فإننا نجد وقوعاً في منطق الوضع القائم وترسيخه. وتكتفي الحكومات وأجهزة استخباراتها بإزاحة «مشكلة المعارضة» إلى تحت السطح كي تنعم براحة مصطنعة. وهذه الإزاحة لا ينتج عنها سوى تأجيل للانفجار لأنها لا تتضمن أي حل أو انتاج لمعادلة سياسية واجتماعية صحية غير عنفية. الدرس البريطاني في العلاقات السرية مع الجيش الجمهوري درس عميق ومهم. مطلوب من لندن أن تتعلم منه أولاً في طريقة تعاملها مع «حماس» ومع أطراف أخرى في الشرق الاوسط. ومطلوب من واشنطن أن تتأمله أيضاً إن ارادت تخفيف مستويات العداء ضدها في المنطقة حتى لا نقول حل المشكلات الكبرى فيها.
"الحياة"

التعليقات