31/10/2010 - 11:02

دروس من الصفح الأميركي!../ محمود المبارك*

دروس من الصفح الأميركي!../ محمود المبارك*
بعد يوم من توليه منصب الرئاسة الأميركية في 9-9-1974، أصدر الرئيس الأميركي السابق جيرالد فورد عفواً مثيراً للجدل عن جميع الانتهاكات التي قام بها سلفه ريتشارد نيكسون، الأمر الذي حال دون محاكمة الأخير على تجاوزاته القانونية في ما عرف بفضيحة ووترغيت.

وعلى رغم أن فورد شعر بالارتياح حين كافأ الشخص الذي كان السبب في وصوله إلى كرسي الرئاسة، إلا انه دفع ضريبة ذلك لاحقاً حين خسر ترشيحه في معركة الانتخابات الرئاسية اللاحقة. ذلك أن عفو الرئيس فورد عن سلفه جاء مخالفاً لرغبة الشعب الأميركي آنذاك، بغض النظر عن دستوريته. إذ يبدو أن الشعب الأميركي – الذي لم يرق له تصرف رئيسه الجديد في حجب العدالة - أراد معاقبته بعدم التجديد له. فذاكرة الشعب الأميركي وإن كانت قصيرة في الغالب، إلا أنها تستعيد نشاطها وقت الانتخابات في تشرين الثاني (نوفمبر)، كما تقول أمثالهم: In November we remember (في تشرين الثاني نتذكر).

ربما جال هذا المثل في ذهن إدارة الرئيس بوش الذي أصدر عفواً رئاسياً الأسبوع الماضي عن لويس ليبي المدير السابق لمكتب نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، من قضاء عقوبة سجن مدتها 30 شهراً، كانت أصدرتها بحقه محكمة فيديرالية بتهمة عرقلة التحقيقات في قضية تسريب هوية عميلة في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.

العفو الرئاسي ليس الأول من نوعه، بل إنه قديم قدم التاريخ الأميركي نفسه. ولكن ما يثير الانتباه في هذا العفو وغيره هو أنه يخالف الأصل الذي لأجله أعطي الرئيس الأميركي هذا الحق. فقد ابتدع جورج واشنطن - الرئيس الأول للولايات المتحدة - طريقة استخدام العفو الرئاسي المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة الثانية من الدستور الأميركي، في آخر يوم من أيام رئاسته، في ما عُدَّ بعد ذلك سُنَّةً ماضيةً للرؤساء من بعده، حين أصدر عفواً عن مجموعة من مهاجري اسكتلندا الذين صدرت في حقهم أحكام بسبب تهربهم من الضرائب ومخالفتهم القوانين الداخلية.

استحسن الرؤساء الأميركيون نهج جورج واشنطن في تأجيل العفو إلى آخر يوم من أيام رئاستهم، وتوارثوها جيلاً بعد جيل. ومن آخر من عمل بهذا النهج الرئيس السابق رونالد ريغان، الذي أصدر عفواً رئاسياً في آخر يوم له في البيت الأبيض عن جورج ستاين برينر، صاحب فريق «اليانكيز» للعبة البايس بول وهو مليونير مقرب من ريغان.

كما فعل الشيء ذاته الرئيس السابق جورج بوش الأب، أيضاً في آخر يوم له في البيت الأبيض، حين أصدر عفواً رئاسياً شمل كلاً من مستشار الأمن القومي السابق روبرت مكفارلين، ووزير الدفاع السابق كاسبر واينبرغر، وإليوت إبراهام وهو موظف في البيت الأبيض، الذين كانت إجراءات محاكمتهم بدأت في ما عرف بفضيحة إيران- كونترا غيت.

في السياق نفسه، أصدر الرئيس بيل كلنتون، في آخر يوم له في البيت الأبيض، قائمةَ عفو رئاسية، شملت 140 شخصاً - وهو رقم لم ينافس أي رئيس سابق الرئيس كلنتون عليه - منهم البليونير اليهودي مارك رتش، الذي حكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات بسبب تهربه من دفع الضرائب، بعد التماس تقدم به رئيس وزراء إسرائيل إيهود باراك آنذاك. كما شملت قائمة كلنتون، كلاً من شقيقه روجر كلنتون، وكارلوس فيغانالي الذي دين بتجارة المخدرات، وسوزان ماكدوغال التي رفضت الإدلاء بشهادتها عن دور الرئيس كلنتون في فضيحة وايت واتر.

اختيار اليوم الأخير من الرئاسة لإصدار العفو قد لا يحتاج إلى بيان كثير، ولكن لسوء حظ الرئيس بوش أنه لم يتمكن من تأجيل العفو عن لويس ليبي - الذي كان مستشاراً للرئيس الأميركي إضافةً إلى عمله مديراً لمكتب تشيني- لأن القاضي الذي نظر في قضية ليبي لم يوافق على تركه طليقاً أثناء فترة الاستئناف، التي عادة ما تستغرق شهوراً طويلة. ولهذا فإن شبح هذا العفو قد يطارد الرئيس بوش بقية فترة رئاسته.

المثير للسخرية في قضية ليبي، هو أن ليبي نفسه كان محامياً عن مارك رتش في قضيته التي انتهت بعفو رئاسي من كلنتون، ليخرج ليبي من مأزقه بالطريقة نفسها التي أخرج بها صاحبه المليونير اليهودي.

ورطة ليبي الأخيرة ظهرت في تموز (يوليو) 2003، حين بدأ التحقيق في قضية كشف هوية عميلة الاستخبارات الأميركية فاليري بلام، التي تم تسريب اسمها إلى الصحافة عن طريق البيت الأبيض، انتقاماً من زوجها، السفير السابق في العراق جوزيف ويلسون، الذي فَنَّد ادعاءات الإدارة الأميركية حول تملك العراق لليورانيوم المنضب وعارض غزو العراق علناً، الأمر الذي تسبب في غضب تشيني على ويلسون، واتهامه بالكذب والتشكيك في وطنيته، ثم بعد ذلك تسريب هوية زوجته للصحافة، ولكن المخالفة التي عوقب عليها ليبي هي كذبه على شرطة مكتب التحقيق الفيديرالي عن عدم علمه بتسريب هوية بلام، وكذبه أمام هيئة المحلفين تحت القسم عن الدور ذاته. وعلى رغم كثرة القرائن التي تشير إلى تورط مسؤولين كبار في البيت الأبيض في هذه الفضيحة بمن فيهم نائب الرئيس نفسه، إلا أن الاتهام لم يشمل أحداً غير ليبي.

ولعل أهم أسباب نجاة ليبي هو قربه من الرئيس ونائبه، حيث يُعد ليبي أحد أعضاء عصابة المحافظين الجدد، وتربطه علاقة قديمة بأستاذه بول وولفويتز - صاحب الفضائح الشهيرة في وزارة الدفاع والبنك الدولي- الذي كان قد اختاره مساعداً له حين عمل مساعداً لوزير الخارجية في فترة الرئيس ريغان. وبدا واضحاً الدور الذي لعبه نائب الرئيس تشيني في الضغط على الرئيس بوش لإصدار عفو عن ليبي، بحجة «الصفح عن مواطن قدم الكثير لوطنه وأمته الأميركية». فقد وصف بيان الرئيس الأميركي - الذي جاء متزامناً مع إجازة عيد ميلاد الولايات المتحدة لأسباب لا تخفى- الحكم القضائي على ليبي بأنه «مفرط». وبالتالي فقد أعطى الرئيس بوش لنفسه الحق في تخفيف الحكم، حين نظر بعين العطف إلى ليبي الذي «تحطمت سمعته وعانت زوجته وأولاده الصغار».

اليوم مع بدء السباق المحموم للرئاسة الأميركية منذ فترة، قد يجد الديموقراطيون في هذه القضية مجالاً للنيل من إدارة بوش، وسيكون مؤكداً استخدام هذه الورقة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

ولكن الدرس المستفاد لنا نحن العرب من هذه التجربة، هو أنه إذا كان رؤساء الولايات المتحدة يتعاملون بمكيالين في داخل بلادهم ومع قوانينهم، فكيف يتعاملون معنا نحن؟ وهل يحق لنا بعد هذا أن نطلب رأياً عادلاً أو حكماً منصفاً في قضايانا ضد إسرائيل؟

ولكن، وبالنظرة المقلوبة للأمور، ربما حق للأمة التي لا تزال تنتظر نظرة عطف من البيت الأبيض لحل مشكلتها الأساسية في فلسطين، هو أن تتعلم من الصفح الأميركي دروساً في العفو عن الخصوم. فشارون وأولمرت وباراك وغيرهم، يجب أن ينضووا جميعاً تحت عباءة الصفح العربي مهما بلغت تأسياً بالصفح الأميركي!


"الحياة"

التعليقات