31/10/2010 - 11:02

رسوب إعلامي في امتحان "نهر البارد"../ فيصل جلول

رسوب إعلامي في امتحان
يتعلم طلاب فرع الصحافة في جامعاتهم واحدة من القواعد الأولية التي لا تفارقهم طيلة حياتهم المهنية. والقاعدة تستوجب الرد في النص الإخباري على أسئلة خمسة: من؟ أين؟ متى؟ كيف؟ ولماذا؟ ويفهم الطلاب أن الامتناع عن الإجابة عن أي من هذه الأسئلة يجعل النص مختلا بل ربما غير صالح للنشر. لكن الطلاب أنفسهم يكتشفون من بعد خلال مزاولتهم للمهنة أن النصوص “المختلة” أو غير الجديرة تنشر بحساب وبغير حساب في وسائل الإعلام العربية، ما يعني أنه كان على أساتذتهم أن يربطوا أثناء إلقاء الدروس بين قواعد ممارسة المهنة وبين الواقع المغاير لهذه الممارسة. كي لا يبقى هذا الحكم نظريا أو مجردا ربما يتوجب تدعيمه بحدث بارز نعيشه يوميا منذ أكثر من أربعة أشهر، أعني به قضية “فتح الإسلام” التي انفجرت في لبنان أواخر الربيع الماضي.

حتى الآن لا نعرف بالضبط من هي هذه المنظمة؟ لا نعرف أين نشأت؟ لا نعرف متى نشأت؟ لا نعرف كيف نشأت وكيف وصلت إلى نهر البارد؟ لا نعرف لماذا أشعلت الحرب أو لماذا استدرجت إلى الحرب؟ وعلى الرغم من جهلنا بكل التفاصيل حولها فإننا مازلنا نطالع أخبارها بكثافة في كل وسائل الإعلام العربية من دون أن نزداد علما أو معرفة بها.

تستدعي هذه القضية تمرينا تطبيقيا انطلاقا من الأسئلة الخمسة المشار إليها أعلاه ولنبدأ ب”من” هي “فتح الإسلام”؟ هي مجموعة إرهابية جندتها المخابرات السورية بحسب فريق 14 آذار/ مارس اللبناني ومعه مصادره في أجهزة الأمن الداخلي. يحتاج هذا التأكيد القاطع إلى براهين غير متوفرة حول من جنّد “فتح الإسلام” في المخابرات السورية؟ لماذا وأين جندها؟ من جاء بها إلى لبنان وكيف؟

بالمقابل تقول المعارضة ومعها مصادرها في مخابرات الجيش اللبناني أن فتح الإسلام بعيدة كل البعد عن المخابرات السورية وأنها تنتمي إلى تنظيم “القاعدة” وإن لم يكن انتماؤها عضويا فهو نظري ومعنوي، بل ربما كانت بصدد تقديم طلب انتساب إلى “القاعدة” عبر تشكيل إمارة إسلامية في شمال لبنان. هنا أيضا يبدو الرد افتراضيا وهو يحتاج إلى براهين لمعرفة النصوص الرابطة بين “القاعدة” والمنظمة، ولمعرفة دوافع رئيسها شاكر العبسي “القاعدوية” إن وجدت. ناهيك عن مصادره وعلاقاته وأجندة ومكان تشكيل التنظيم وهكذا دواليك.

بالانتقال إلى “أين” قامت “فتح الإسلام”، تتشعب الإجابة أيضا في خطين متوازيين: في سوريا، يقول الآذاريون. بل في مخيم نهر البارد يقول المعارضون. أما عن “كيف” و”متى” وصلت إلى المخيم فالإجابة قاطعة في عرف أنصار الحكومة: لقد جاءت بها المخابرات “الشقيقة” عبر الحدود اللبنانية - السورية البرية المفتوحة وعبر خطوط إمداد المنظمات الفلسطينية الموالية لسوريا في اللحظة التي تبين فيها أن “المحكمة الدولية” المكلفة بقضية رفيق الحريري صارت قدراً لا راد له في مواجهة “النظام السوري”. في حين ترى المعارضة أن أطرافا مؤيدة للحكومة نقلت أفراد المنظمة إلى “نهر البارد” بمواكبة أمنية رسمية، وان كثيرين من أعضائها وصلوا إلى لبنان جوا عبر مطار بيروت الدولي في اللحظة التي بات فيها واضحا للأمريكيين وحلفائهم المحليين أن انتصار المقاومة في حرب تموز/ يوليو 2006 يجب أن يدمر بحرب مذهبية أو بخلق أوضاع أمنية مضطربة في لبنان تستنزف المقاومة وتشتت قواها وتبرر لفريق السلطة اللبنانية حجم التأييد الأجنبي الواسع في “معركة مفترضة” ضد الإرهاب.

وأخيرا يتشعب الجواب عن “لماذا” اشتعلت حرب “نهر البارد” في اتجاهين متناقضين: يجزم الفريق الحكومي أن المنظمة تلقت تعليمات سورية بإشعال الحرب للضغط على الحكومة الآذارية وإسقاطها، وأن حرب “البارد” هي استمرار للاعتصام المتواصل في وسط العاصمة التجاري بوسائل أخرى. من جهته يجزم الفريق المعارض بأن الحرب اندلعت جراء خلاف بين فريق السلطة وعناصر “فتح الإسلام” أدى إلى أن تصدر المنظمة بيانا أعلنت فيه أن عناصرها لن يقاتلوا “إلا ضد الولايات المتحدة والصهاينة ومن والاهم”. وبالتالي من غير المفيد الرهان عليهم في نزاع مذهبي لبناني والكلام دائما للمعارضة.

يفضي التمرين الاستقصائي المذكور إلى خلاصة مذهلة: لقد دارت حرب في مخيم فلسطيني في لبنان طيلة أربعة أشهر أدت إلى تهجير أكثر من ثلاثين ألف فلسطيني وتدمير المخيم تدميرا كاملا وسقوط حوالي 150 عسكريا لبنانيا من مختلف الرتب، فضلا عن عشرات الجرحى ناهيك عن سقوط وجرح وأسر أكثر من 600 مقاتل من المنظمة المذكورة (حتى الآن) ومع ذلك لا نعرف بعد معرفة دقيقة كيف تجمعت عناصر هذه الحرب ومن جمعها ومتى ولماذا؟

ويفضي التمرين نفسه إلى خلاصة ذات صلة مفادها أن الصحافة العربية وبخاصة اللبنانية منها قد سقطت سقوطا مدويا في امتحان “نهر البارد”، وذلك على الرغم من حجمها وجودة تقنياتها وانطوائها على نخبة عريضة من المحترفين. وللتذكير فقط يضم الأثير العربي آلاف الفضائيات والإذاعات وآلاف المواقع الالكترونية والمدونات الشخصية ومئات الصحف اليومية والأسبوعية الرسمية والخاصة وعشرات الجمعيات والنقابات الصحافية وآلاف المهنيين وعشرات الكليات والمعاهد الإعلامية.

تبقى الإشارة إلى أن فشلنا في الإجابة عن أسئلة “حرب البارد” يساهم في صنع مجد الصحافة الأجنبية الناطقة بالعربية. فعندما نخفق في الإجابة عن أسئلة حرب بهذا الحجم، من الطبيعي أن يأتينا “الخواجة” الأجنبي بأجوبة نتصرف إزاءها كما تصرف أسلافنا ويتصرف بعضنا حتى اليوم إزاء الإذاعة البريطانية: كل الأخبار العربية التي لا تبث من لندن... كاذبة. يا للفاجعة.
"الخليج"

التعليقات