31/10/2010 - 11:02

روسيا "نيوسوفييتية" بلا ماركسية لينينية ../ فيصل جلول

روسيا
انهيار الاتحاد السوفييتي كان الكارثة الأكبر في تاريخ روسيا” خرجت هذه العبارة مدوية من خطاب شبه “سوفييتي” أطلقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمر الأمن ومكافحة الإرهاب في ألمانيا أواخر يونيو/ حزيران الماضي. يتعدى وقع الخطاب الحنين الى ماض لم يمض بعد في روسيا ولا يريده كثيرون أن يمضي ويشير إلى حاضر روسي ما انفك يؤرق سادة العالم الغربيين الذين لم ينتهوا تماما من تقاسم التركة السوفييتية.

تصدر عن موسكو منذ ذلك الخطاب مواقف تذكر بـ“الحرب الباردة”: بيان متشدد في مجال الطاقة ورفض التدخل الاجنبي في قمة دول “شنغهاي”. رفض حازم للدرع الصاروخية الامريكية في تشيكيا وبولونيا، اطلاق طائرات التجسس “السوفييتية” العملاقة في مهمات استطلاعية. رفض صريح لأي حل لأزمة كوسوفو يفضي إلى استقلال الاقليم. استئناف التدخل في شؤون الدول المحاذية لروسيا والمرشحة للانضمام إلى الحلف الاطلسي وبخاصة جورجيا وأوكرانيا. فشل محادثات القمة الروسية الفرنسية مطلع الشهر الجاري بسبب الملف النووي الايراني و”المواعظ الفرنسية” في الديمقراطية وحرية الصحافة. فشل مماثل بعد أيام قليلة في محادثات روسية أمريكية على مستوى وزراء الدفاع والخارجية وذلك بعد فشل قمتين بين بوش وبوتين حول الدرع الصاروخية و”النووي الايراني” و”التطبيق الديمقراطي” في روسيا. الفشل نفسه ينسحب على قمة بوتين وميركل في ألمانيا الاسبوع الماضي. زيارة تاريخية لإيران في اطار قمة دول بحر قزوين وصدور قرار عن القمة يقضي بمنع الدول المتشاطئة استقبال اية قوات اجنبية على اراضيها للاعتداء على دولة من الدول الاعضاء في القمة. فشل لقاء مرتجل بين بوتين وأولمرت حول النووي الايراني وصفته الصحافة “الاسرائيلية” بـ“الصفعة” لرئيس وزراء الكيان. مطالبة بوتين بتحديد موعد للانسحاب الامريكي من العراق. حديث دولي متزايد عن قاعدة روسية في اللاذقية في سوريا وعن تزويد الجيش السوري بمعدات عسكرية حديثة. مع الاشارة إلى أن بوتين قد استقبل خالد مشعل وكان الوحيد بين زعماء الدول الأعضاء في مجلس الامن في وقت تقاطع فيه أوروبا وأمريكا حركة حماس. هدد الزعيم الروسي مراراً بالانسحاب من معاهدة الحد من الصواريخ الاستراتيجية للعام 1987 اذا ما أصرت واشنطن على موقفها من الدرع الصاروخية في بولونيا وتشيكيا... الخ.

كان يمكن لهذه المواقف ذات “الطعم” السوفييتي أن تبقى محدودة الأثر لو ظلت معزولة عن التطورات الداخلية في روسيا نفسها، حيث عادت السلطة المركزية للسيطرة على مصادر الطاقة بعد قضية “لوكوس” وتهميش منظمات المجتمع المدني الممولة غربيا والتي تعمل في اطار الدفاع عمّا يسمى بـ“الديمقراطية” في هذا البلد ناهيك عن وضع اليد من طرف المجموعة القومية المخلصة لبوتين على كل المعابر التي تفضي إلى تشكيل واعادة تشكيل السلطة الفعلية في روسيا ويفيد مختصون في الشؤون الروسية أن احدا بعد اليوم لا يمكنه الوصول إلى رأس الدولة في روسيا الا إذا حظي بمباركة بوتين وفريقه الفخور بقوميته.

هكذا يبدو أن موسكو تنتهج سياسة داخلية وخارجية يمكن تسميتها مع بعض التحفظ بـ“نيو سوفييتية” وهي لا تستمد من الحنين الى ماضي “الاتحاد السوفييتي” وحده، وانما من متغيرات داخلية ودولية بارزة، من بينها فشل الولايات المتحدة في إعادة بناء الشرق الاوسط على هواها، وغرقها المتمادي في المستنقع العراقي وفشل الحلف الاطلسي في القضاء على التمرد الافغاني، وفشل “إسرائيل” في القضاء على المقاومة اللبنانية، وفشل أثيوبيا حليفة واشنطن في القرن الافريقي بالقضاء على المقاومة الصومالية، وتعثر مشاريع التدخل الغربي في إقليم دارفور. ويترافق هذا الفشل مع ضعف اقتصادي أمريكي متزايد ناجم عن كلفة الحروب والتدخلات الخارجية، ومع تصاعد غير مسبوق في اسعار الطاقة، وانبثاق شبح اقتصادي صيني يستند الى الطاقة المضمونة من روسيا والدول المنتجة للنفط وتحتاجه الأسواق الغربية للحفاظ على استقرارها الاقتصادي، كما تحتاجه الولايات المتحدة الأمريكية على أكثر من صعيد. والواضح أن العملاق الصيني يميل في القضايا الدولية إلى التنسيق مع روسيا وعدم الخضوع للاملاءات الأمريكية وذلك بخلاف فترة الحرب الباردة التي تميزت بالنزاع الصيني السوفييتي.

ثمة من يرى في روسيا فلاديمير بوتين استنادا إلى المواقف المذكورة قطبا ندياً للولايات المتحدة الامريكية وبالتالي دليلاً على انتشار مناخات الحرب الباردة من جديد وثمة من يعتبر أن التطلع الروسي نحو الماضي السوفييتي يمكن أن يفضي إلى عالم متعدد القطبية وإلى توازن أكبر في العلاقات الدولية. ولعل نزعة التفرد الامريكية بخاصة والغربية عموما في شؤون العالم تعزز هذا المنحى وتتيح فرصاً جدية لانطلاقة روسية “نيوسوفييتية” بلا ايديولوجية ماركسية.

لكن الوقائع الثابتة تشير إلى فجوة هائلة لم تردمها روسيا بعد، فهي تملك بالفعل أسلحة دولة عظمى، لكن اقتصادها لم يتجاوز بعد حجم الاقتصاد الهولندي، ومازال جيشها عاجزا عن القضاء على تمرد شيشاني محدود الحجم ومازالت وحدة أراضيها مهددة في القوقاز، ومازال اقتصادها تحت رحمة الأسواق الرأسمالية رغم ارتفاع اسعار النفط والكشف عن احتياط قياسي في الغاز الطبيعي وبكميات تجارية ضخمة على مقربة من الأسواق الأوروبية.

حتى يصبح حلم فلاديمير بوتين “السوفييتي” ممكنا يتوجب الرهان على المزيد من الحماقات في السياسة الخارجية الامريكية، والمزيد من المواقف الاوروبية المتضعضعة، والمزيد من الممانعة والمقاومة في القضايا الدولية والمزيد من التراجع الامريكي والغربي في امبراطورية الروس التقليدية.

وسط هذا الحقل الحافل بالرهانات يمكن لبوتين أن يتوج “قيصرا” في منطقة وسطى بين ستالين وميخائيل جورباتشوف.
"الخليج"

التعليقات