السلم الأهلي والوحدة الداخلية قضيتان أساسيتان في حياة الشعوب، ما يجعل صونهما بمثابة هدفٍ وطني استراتيجي، وهو ما لا يمكن تحقيقه وحمايته إلا بإيجاد نظام سياسي وطني ديموقراطي ملزم ومتفق عليه. ودون ذلك يصبح الحديث عن وحدة الشعوب ووحدة مصيرها مجرد كلام لا طائل منه.
هذا في حياة الشعوب عموماً. فكيف يكون الحال عندما يتعلق الأمر بشعوب تخضع لاحتلال أجنبي يتحكم بحاضرها ويستميت لرسم مستقبلها ومصيرها وفق مقتضيات مصالحه ومخططاته؟!!! واستتباعاً كيف يكون الحال في واقع الفلسطينيين الذين تعرضوا وما زالوا يتعرضون لاحتلال استثنائي في طبيعته، لم يستهدفهم في السوق والمواد الخام فقط، بل استهدف وجودهم وكينونتهم وهويتهم الوطنية والقومية أيضاً. وكان منذ البداية احتلالا عنصرياً الغائيا إحلالياً مارس كل اشكال التطهير العرقي عبر ابتلاع الارض واقتلاع السكان والتنكر للحقوق، حتى في حدها الأدنى كما أقرتها قرارات الشرعية الدولية. ولم يتوقف يوماً عن استغلال التعارضات الطبيعية في الأوساط الفلسطينية، وعملَ على تسعيرها بكل الاشكال والإجراءات الواعية والمدروسة والمخططة؟!!! هنا يغدو أمر الحفاظ على الوحدة الداخلية وصون السلم أمراً مصيرياً بكل المعاني.
إزاء هذا الحال لم يعد ايجاد والحفاظ على نظام سياسي وطني ديموقراطي فلسطيني مجرد مطلب استراتيجي لصيانة الوحدة الداخلية والسلم الأهلي، كما هو الحال لدى باقي الشعوب، بل أصبح بمثابة شرط لا بد منه لصيانة الأمن الوطني، الذي تشكل الهشاشة فيه عاملاً اضافياً ومجانياً لضرب المشروع الوطني للفلسطينيين، والعبث بوجودهم ووحدتهم ونضالهم لاستعادة حقوقهم الوطنية والقومية والإنسانية المغتصبة، التي يعلم الجميع أن قيام السلطة الوطنية لم يستوفها، وأن مشوار استكمالها ما زال طويلاً، ويفرض أول ما يفرض، ويستلزم أول ما يستلزم وحدة الصف والمؤسسة والنظام السياسي، الأمر الذي لن يكون دون الإتفاق على برنامج سياسي وطني جامع يتحدد بالقواسم المشتركة بين ألوان الطيف السياسي والفكري الفلسطيني المتباينة، التي يخطيء مَن يعتقد أنها ستكون متجانسة في يوم مِن الأيام.
في السياق، بعجره وبجره شكل النظام السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي تأسست بمبادرة قومية مصرية "ناصرية"، أداة مهمة لتأطير الأولويات السياسية الإستراتيجية الفلسطينية وترتيبها في مرحلة تحرر وطني تفرض تحديات مصيرية، وتلد في كل محطة مِن محطاتها ما لا يحصى مِن المهام الجسيمة.
لقد ظل الحال على هذا النحو، رغم كل ما على النظام السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية مِن ملاحظات وانتقادات تدعو للتطوير والاصلاح والتغيير، حتى وقع المحظور الاستراتيجي في حياة الفلسطينيين وعقيدتهم الأمنية عندما سقطت الأطراف السياسية الفاعلة في خطيئة اقتتال داخلي تدحرج ككرة ثلج، لم تجرِ السيطرة عليه، واندفع الى مستويات الخطر الاستراتيجي، وكانت ذروة الانحدار في استخدام الوسائل العسكرية للحسم السياسي في غزة، وما ترتب عليه مِن فصل لغزة عن الضفة قاد الى اجراءات ادارية وأمنية وقانونية متبادلة وضعت فلسطينيي الضفة وغزة ازاء نظامين سياسيين لكل منهما سلطته التنفيذية والقضائية والتشريعية الخاصة. وهذا ما فاقم مشكلة تشتيت الفلسطينيين واضطرارهم للعيش القسري تحت انظمة سياسية متباينة. فهناك المتبقون على الأرض المحتلة عام 1948 الذين يخضعون للنظام السياسي الإسرائيلي وقوانينه، وهناك اللاجئون والنازحون الذين يخضعون لعدة انظمة سياسية وقانونية عربية واجنبية، وهناك سكان القدس الشرقية التي جرى ضمها لإسرائيل بعد هزيمة عام 1967.
إزاء هذا الحال؛ وإزاء ما يعيشه الفلسطينيون مِن ظروف قومية عاجزة ومفككة؛ وإزاء تعرضهم لهجمة سياسية وعسكرية وإستيطانية إسرائيلية متصلة ومتصاعدة تهدف الى تصفية قضيتهم الوطنية؛ وإزاء ما تحظى به الرؤية والمواقف الإسرائيلية مِن تغطية أمريكية تكاد تكون مطلقة وكاملة؛ وإزاء انعدام أي أفق لإحراز تسوية سياسية للصراع تلبي الحقوق الفلسطينية، ولو في حدها الأدنى؛ وإزاء ما يشكله استمرار الانقسام الفلسطيني الداخلي مِن أرضية خصبة للإستثمار الأمريكي الإسرائيلي البشع، تصبح استعادة وحدة النظام السياسي الفلسطيني مهمة عاجلة لا تحتمل التأجيل، بل تصبح حلقة مركزية دون الإمساك بها لا يمكن القبض على باقي حلقات السلسلة الفلسطينية داخلياً وخارجياً. فبدون وحدة النظام السياسي الذي يضمن وحدة القيادة ووحدة مؤسسة صنع القرار ووحدة الأداء النضالي والسياسي يسود الجنوح نحو الفوضى والانفلات والتشرذم على كافة الصعد والمستويات، ويجري ضرب الركن الركين للكيفية التي يمكن بها لطرف ضعيف الدفاع عن مصالحه الوطنية الحيوية في بيئة تهيمن عليها أطراف أكبر منه وأقوى.
لقد اعتمدت عقيدة الأمن الإسرائيلية، (منذ أرسى بن غوريون لبناتها الأولى وحتى اليوم)، على فكرة نقل المعركة الى أرض العدو، وإبعادها قدر الإمكان عن المراكز الإسرائيلية. وتلك مسألة باتت معروفة، وأصبح يدركها حتى مَن لا يعرف مِن مجريات الصراع وقوانينه سوى الاسم، غير أن ما يغيب عن بال الكثيرين أحياناً، هو أن فكرة نقل المعركة الى ارض العدو لها معنى سياسي ولا تقتصر على المعنى العسكري، بل إن معناها السياسي هو الأخطر، ذلك أن الحرب تتبع السياسة وليس العكس، وإلا ما معنى استماتة القيادات الإسرائيلية منذ بن غوريون وحتى اليوم على رفض الاقرار بحق الفلسطينيين في تقرير المصير المستقل والسيادي، والإصرار على التعامل معهم كمجموعات سكانية متباينة، ورفض التعامل معهم كشعب، والعمل على تكريس دمجهم والحاقهم في انظمة سياسية مختلفة، وإظهار أن لا علاقة لمشكلتهم باحتلال أرضهم وانتزاعهم منها وتشريدهم في الأرجاء الأربعة للمعمورة؟!!! وألا يشكل كل ذلك محاولة لنقل معارك الصراع بالمعنى السياسي الى مواقع غير الموقع الذي يجب ان تدور فيه؟!!!
والحال؛ ألا يعتبر السقوط في خطيئة الإنقسام الفلسطيني الداخلي، وما أفضى ويفضي اليه مِن تآكل في وحدة النظام السياسي الفلسطيني، بمثابة شكل مِن أشكال السقوط في فخ المحاولات الإسرائيلية لنقل المعركة بالمعنى السياسي الى مكان غير المكان الذي يجب تدور فيه؟!!!
على هذا السؤال المفصلي يجب أن يتمحور الجدل الفلسطيني، وفي اطاره يجب أن ينصب الجهد، وأمامه يجب أن تتوقف كافة المؤسسات السياسية الفلسطينية الرسمية منها والشعبية، وفي مقدمتها بالطبع مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية التي يجب أن تبقى مسؤوليتها غير مقتصرة على الأوضاع الفلسطينية في الوطن، وإن كانت الحلقة المركزية في راهن النضال الوطني. وهذا ما يفرض على المجلس المركزي الذي ينعقد في ظل أوضاع داخلية وخارجية غاية في التعقيد، أن يعطي الحيز الأكبر مِن اهتمامه للإجابة على سؤال الحلقة المركزية في راهن الحياة الفلسطينية، أي سؤال: كيف السبيل لاستعادة الوحدة للنظام السياسي الفلسطيني، ووقف ما يمر به مِن حالة تآكل متسارعة. فهو السؤال الذي لا قبله ولا بعده، ودون الإجابة عليه يصبح مجرد لغو أي حديث عن إدارة مثمرة للصراع مع الاحتلال، الذي لن يدخر جهداً في اذكاء نيران التشظي الداخلي، وإلا ما معنى التركيز الأمريكي الإسرائيلي على مطالبة السلطة الفلسطينية بضبط الأوضاع في غزة كشرط للتقدم في المفاوضات التي أطلقها "أنابوليس"؟!!!
التعليقات