31/10/2010 - 11:02

سذاجة التفاؤل../ علي جرادات

سذاجة التفاؤل../ علي جرادات
اختطت اتفاقية كامب ديفيد المصرية ،1978 التفاوض المباشر والمنفرد مع الكيان الصهيوني. وأطلقت الرهان على حيادية أمريكا وممكنات ضغطها على الحليف الصهيوني. وجاءت بسياسة الثقة بأطروحة المرحلتين: انتقالية، يدير خلالها فلسطينيو الضفة وغزة (دون القدس) شؤونهم الذاتية تحت السيطرة “الإسرائيلية”. ونهائية تدير تلك السلطة الانتقالية التفاوض حول قضاياها.

وفي مدريد ،1991 اختار النظام العربي وقيادة منظمة التحرير القبول بسياسة التفاوض المباشر والمنفرد تحت الرعاية الأمريكية. واختارت قيادة منظمة التحرير إبرام اتفاق أوسلو، الذي قاد إلى تخلي النظام العربي عملياً عن مسؤولياته القومية تجاه القضية الفلسطينية، وتحميل منظمة التحرير ما تطيق وما لا تطيق، حيث راحت قيادتها تلعب بدمية “القرار المستقل”، بوهم أن أوسلو قد يفضي إلى تلبية الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية. وجاءت مفاوضات كامب ديفيد 2000 لتظهر أنه لا يوجد لدى الصهاينة غير “الحكم الذاتي”، كما طُرِحَ على السادات عام ،1978 (إن لم يكن أقل من ذلك)، وتبين أن أطروحة المرحلتين هي مجرد خدعة صهيونية لجرجرة العرب والفلسطينيين، وتحويل “الانتقالي” إلى “نهائي”، تصوغه الوقائع الصهيونية على الأرض، بدعم الراعي الأمريكي المسيطِر، الذي تبين أن حياديته محض وهْم، ما فرض السؤال: ما العمل مع تعاقد أوسلو السياسي، الذي ثبت عقمه، ولم يعد يلتزم به أحد حتى أشد المتحمسين له؟

عن استحقاقات الإجابة عن هذا السؤال الحارق، صمَتَ الرسمي العربي، وتلعثمت قيادة منظمة التحرير، وساندت بالسر الشعبي الفلسطيني، الذي ردَّ ميدانياً بانتفاضة الأقصى ،2000 التي خذلها الرسمي العربي، وتجاهلت مغزاها السياسي قيادة السلطة الفلسطينية، ليصبح الفلسطينيون بخطابين سياسيين: شعبي مقاوم، ورسمي لا يقوى على خطوة فك التعاقد السياسي لأوسلو، بالنظر لثقل استحقاقاتها ما لم يتبناها الرسمي العربي، ما أعاد التأشير على استراتيجية علاقة القومي بالوطني واستثنائيتها في القضية الفلسطينية، كما كان أرساها الراحل عبدالناصر، وارتد عليها “مدريد” وأوسلو، ومن قبلهما اتفاقية كامب ديفيد، وأغفلتها قيادة منظمة التحرير يوم بلعت طعم انفرادها بتحمل كامل تبعات القضية الفلسطينية.

على أية حال، وقع زلزال 11 سبتمبر/ أيلول ،2001 وجرى احتلال العراق، وذبلت انتفاضة الأقصى، وأعيد احتلال مناطق “أ” في الضفة واقعياً، من دون الإعلان عن فك تعاقد أوسلو، وطُرحَت “خارطة الطريق” كخطة لإنعاشه، وتصفية الانتفاضة والمقاومة، ورحل الرئيس عرفات مُسَمَّماً، وفك شارون الارتباط مع غزة و”حبسها” بقرار أحادي، وتلهى الفلسطينيون في شأنهم الداخلي، وعقدوا انتخابات “التشريعي”، وفازت “حماس”، وشكلت الحكومة العاشرة للسلطة الفلسطينية، وبعدها حكومة الوحدة الوطنية، لكن، ورغم كل هذه المتغيرات، فإن سؤال فك تعاقد أوسلو السياسي ظل معلقاً يبحث عن جواب.

واصل الرسمي العربي الصمت، وهربت قيادتا “فتح” و”حماس” من التكاتف لتقديم إجابة وطنية مسؤولة إلى عبثية تقاسم فتات “سلطة” تعاقد أوسلو، بل دخلتا في جريمة الدم الأكثر عبثية، التي أنتجت فصل غزة عن الضفة ككيانين منفصلين تستبيحهما “إسرائيل”، وتلعب معهما لعبة وصف أحدهما ب”الاعتدال” واتهام الآخر ب”التطرف”، بينما يعجز الاثنان عن الإجابة عن سؤال الحيرة (الأزمة) الفلسطينية: ما العمل مع تعاقد أوسلو السياسي؟

هنا اغتنم بوش الفرصة ليعطي إجابة “لقاء الخريف” الدولي اسماً والأمريكي دوراً وصلاحيات، ليكون شاهد الزور على تجديد مفاوضات أوسلو العبثية، تحت شعار فتح أفق سياسي، بما يذكِّرُ بحقيقة أن الأفق هو آخر ما يرى الإنسان، وعادة، فإن آخر ما يراه هو ما يُخيَّل إليه أنه التقاء السماء بالأرض، لكنه ما أن يذهب إلى نقطة الالتقاء المتخيلة، حتى يكتشف أن السماء ما زالت “بعيدة عن الأرض”، وهذا هو حال توقع أن يفضي “لقاء الخريف” لفتح أفق سياسي، اللهم إلا لأغراض:

تعميق الانقسام الفلسطيني وتكريسه، وتوسيع التطبيع الرسمي العربي مع الكيان الصهيوني، وتهميش القضية الفلسطينية وسلخها عن عمقها القومي، وتسكين آلامها بادعاء معالجتها سياسياً، بهدف كسب التحالفات العربية لتجاوز الفشل العسكري الأمريكي “الإسرائيلي” في لبنان والعراق، وربما لشنِّ حرب أخرى محتملة.

والأنكى، فإنه، ورغم عقم مسيرة سبعة عشر عاماً من المفاوضات العبثية، ورغم الوضوح الساطع لأغراض “لقاء الخريف”، إلا أن هنالك عرباً وفلسطينيين، لا يزالون يروجون لكون واشنطن معنية بمعالجة القضايا العربية والحقوق الأساسية للفلسطينيين، معالجة سياسية جادة.

إن الترويج لنوايا “سلمية” أمريكية “إسرائيلية” لا يقبلها حتى العصفور الذي ردّ على رفيقه المتفائل بدموع الصياد الذي كان يذبح عصافير أخرى قائلاً: لا تنظر إلى دموع عينيه، بل انظر إلى فِعْلِ يديه. كلا العصفورين لم يكن يعرف أن دموع الصياد كانت بسبب البرد، ولكن العصفور الثاني لم يصدِّق أنها دموع رحمة.
"الخليج"

التعليقات