31/10/2010 - 11:02

شبح في سماء القارة العجوز../ فيصل جلول

شبح في سماء القارة العجوز../ فيصل جلول
تفصح نتائج الانتخابات في عدد من الديمقراطيات الغربية عن أن القسم الأعظم من الناخبين يقترعون تحت تأثير واضح لأزمة الأسواق العالمية، وبالتالي يعاقبون ممثليهم السياسيين الذين أخفقوا في معالجة آثار هذه الأزمة.

فقد بينت تجربة الشهور الماضية أن السلطات السياسية في بلدان غربية عريقة في تجربتها الديمقراطية اتخذت قرارات مفيدة حصراً للمجمعات الاقتصادية الكبرى، وليس للقطاعات الشعبية الأكثر تضرراً من الأزمة، وذلك لعجزها عن التصدي لأصحاب القرار في الأسواق، وبالتالي إرغامهم على تحمل مسؤولية الأزمة وتغيير قواعد اللعبة في اقتصاد افتراضي كلي القدرة.

وإذ تضخ السلطات السياسية مبالغ طائلة هي حاصل عائدات الضرائب العامة لإنقاذ البورصات المتلاعبة بالأسهم الفاسدة أو المصارف الفاشلة الشريكة في الرهانات المالية الافتراضية فإنها تقر ضمناً بسيطرة الأوليغارشية المالية على النخب الحاكمة، ما يعني أن مركز السلطة الحقيقي يكمن في الأسواق، وليس في القصور الرئاسية والحكومات والبرلمانات ومجالس الشورى، علماً بأن تشكيل هذه المؤسسات يتم عبر صناديق الاقتراع وبمشاركة الناخبين الذين ينتمون بأكثريتهم الساحقة إلى الفئات الشعبية التي تتحمل آثار أزمة هائلة لم تشارك في صنعها.

ولعل الانتخابات الإقليمية الأخيرة في فرنسا تصلح كمرآة عاكسة للتصويت الشعبي العقابي ضد السلطة الحاكمة، فهذا البلد كان على الدوام شفافاً في صراعاته السياسية وتأثير هذه الصراعات على محيطه الأوروبي بخاصة والغربي عموماً. والبادي في الانتخابات المذكورة أن الناخب الفرنسي بعث عبر صناديق الاقتراع رسائل عقابية صريحة للسلطة السياسية التي لم تخفق في التصدي للمسؤولين عن الأزمة المالية فحسب، وإنما ضخت المال العام في طاحونتهم. ويمكن حصر الصوت العقابي في الخطوط العريضة التالية:

أولاً: الانحسار التاريخي عن اليمين الحاكم الذي سجل أدنى نسبة في انتخابات عامة منذ تأسيس الجمهورية الخامسة.

ثانياً: الامتناع عن التصويت، حيث هجر أكثر من نصف الفرنسيين صناديق الاقتراع وهي نسبة ربما تكون غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات الفرنسية. وهذا العزوف ينم عن ضعف ثقة غالبية الناخبين بالطبقة السياسية وقدرتها على حماية مصالحهم وحل مشاكلهم.

ثالثاً: اقتراع نسبة كبيرة من الناخبين لصالح اليسار الاشتراكي رغم أدائه الركيك واضطرابه وانقساماته الداخلية واستجابة عدد من رموزه لمغريات المنصب والسلطة، وبالتالي العمل مع حكومة نيكولا ساركوزي اليمينية. فاليسار المرشح للفوز بالأكثرية الساحقة من المجالس الإقليمية في الدور الثاني من الانتخابات ربما يظل في عرف الناخبين أكثر قدرة على حماية مصالحهم من اليمين التقليدي الخاضع للأسواق المأزومة أو الوافد منها.

رابعاً: انحياز قسم كبير من الناخبين للجبهة الوطنية المتطرفة (12 في المائة) التي تطرح شعارات قومية متعصبة وتحمل على الأجانب، وتكافح العولمة والإندماج الأوروبي، وترفع شعارات متصلة بالحنين إلى عظمة فرنسية غابرة في قرون غابرة. والملفت أن أسهم هذا التيار كانت قد هبطت إلى الحضيض في الانتخابات الرئاسية عام2007 وعادت لترتفع تدريجياً مع اندلاع الأزمة الاقتصادية ونمو الخوف لدى الفرنسيين من آثارها على حياتهم اليومية ومستقبل أبنائهم.

خامساً: ارتفاع أسهم أنصار البيئة ومناهضي العولمة واليسار الراديكالي (حوالي 20 في المائة). والواضح أن هذا التيار المتعدد المشارب أخذ بالتوسع في أوساط الرأي العام بوصفه الأكثر صراحة في شعاراته المناهضة للرأسمالية المتوحشة وللآثار السلبية للتوسع الرأسمالي على البيئة. والظن الغالب أن هذا التيار يلعب دوراً كان الحزب الشيوعي الفرنسي يلعبه دفاعاً عن مصالح الطبقات الشعبية منذ الخمسينيات وحتى أواسط الثمانينيات، حين بدأت أسهمه بالتراجع جراء مشاركته في الائتلاف اليساري الحاكم بزعامة فرانسوا ميتران لتصل إلى الحضيض بعد انهيار الحرب الباردة.

لا يقر اليمين الفرنسي بخاصة والأوروبي عامة بأثر الأزمة الاقتصادية على تراجع أسهمه لدى الرأي العام الفرنسي والأوروبي، ويميل إلى قراءة هذه النتائج في ضوء المعطيات الانتخابية السابقة التي شهدت صعود وهبوط التيارات السياسية وفقاً لاستراتيجياتها وبرامجها السياسية، بيد أن تراجعه القياسي في أوساط الناخبين لا يتيح مجالاً للشك حول ارتباط هذا التراجع بعمق الأزمة وأثرها النفسي على خيار الناخبين.

كان كارل ماركس يقول في القرن التاسع عشر إن فرنسا هي البلد الوحيد في أوروبا الذي وصلت فيه الصراعات الطبقية حتى نهاياتها الطبيعية، والراجح أن هذه الخلاصة ما زالت صالحة منهجياً على الأقل حتى اليوم. ففي هذا البلد قال الناس لتوهم بصوت عال عبر صناديق الاقتراع ما يفكر فيه الرأي العام الأوروبي والغربي بصوت منخفض، وإذ يعاقب الفرنسيون حكامهم جراء الأزمة الاقتصادية فإنهم يرسمون معالم الطريق الذي سيسلكه أو سلكه للتو نظراؤهم في العديد من دول الاتحاد الأوروبي. فهل يصل صدى هذا العقاب إلى الأوليغارشية المالية؟ لا مبالغة في القول إن هذا السؤال يحوم اليوم كشبح ثقيل الظل على القارة العجوز.
"الخليج"

التعليقات