31/10/2010 - 11:02

صفقة تطهير الذاكرة../ فهمي هويدي

صفقة تطهير الذاكرة../ فهمي هويدي

عملية اطلاق سراح الاسرى لدى “إسرائيل” شهادة اعادتنا الى زمن البراءة والكبرياء، وذكرتنا بما نستطيع ان نفعله. بقدر ما ان المطالبة باعتقال الرئيس السوداني شهادة ردتنا الى زمن الانكسار، ونبهتنا الى ما يمكن أن يفعل بنا.

(1)

لا أعرف أي قدر من الدهشة يمكن أن يعتري شباب جيل هذا الزمان حين يطالعون قصص بطولات العائدين. ويتعرفون الى هوياتهم. احدهم كان سمير القنطار اللبنانى الدرزي الذي انخرط في “جبهة التحرير” قبل ثلاثين عاما، وبدأ نضاله وهو فى سن السادسة عشرة، إذ نجح مع ثلاثة آخرين فى الدخول الى “اسرائيل” عن طريق البحر فى عام ،1979 واستطاعوا الوصول الى مستوطنة “نهاريا”. وكان هدف خطتهم هو اختطاف رهائن من الجيش “الاسرائيلي” لمبادلتهم بالأسرى العرب. فأشتبكوا مع سيارة للشرطة وقتلوا اثنين من جنودها، ثم اقتحموا منزلاً، واختطفوا رجلاً وابنته ليحتموا بهما فى تقدمهم، ولكن الشرطة لاحقتهم وامطرتهم بوابل من النيران فقتلوا اثنين من الفدائيين وقتل الرجل وابنته. وفي هذه العملية التي صدمت “الاسرائيليين” ألقي القبض على القنطار وقرروا الانتقام منه، فصلبوه وعذبوه، وأصدروا ضده احكاما بالسجن لمدة 542 عاماً. ورفضوا أي حديث عن مبادلته تحت أي ظرف، حتى اعتبر اطلاق سراحه خطاً أحمر، وتداول السياسيون والاعلاميون منذ ذلك الوقت عبارة تقول ان “اسرائيل” لن تلد المسؤول الذي سيفرج عنه.

في أحد التوابيت التي تمت مبادلتها رقد رفات دلال المغربي، الفلسطينية ابنة العشرين عاما، التي خرجت من أحد المخيمات المقامة في لبنان، واختارتها حركة فتح لتكون في قيادة مجموعة ضمت 13 شخصا كلفت في عام 1978 -قبل شهر من عملية سمير القنطار- لتنفيذ عملية جريئة. استهدفت الاستيلاء على مقر الكنيست في تل أبيب، واحتجاز من فيه رهائن لمبادلتهم بالأسرى العرب. من البحر جاؤا في قوارب مطاطية انزلتهم على شاطئ يافا القريبة من تل ابيب. ووصلوا قبل طلوع الشمس الى الطريق العام، حيث نجحوا في ايقاف حافلة ضمت 30 “اسرائيلياً” واجبروا قائدها على التوجه الى تل أبيب. وفي الطريق صادفتهم حافلة اخرى فأوقفوها وانزلوا ركابها وضموهم الى الرهائن المذهولين الذين معهم. ابلغت دلال المغربى الجميع بأنهم لا يريدون قتل أحد منهم، ولكنهم يريدون مبادلتهم مع زملائهم الذين تحتجزهم الحكومة “الاسرائيلية”. واخرجت من حقيبتها علم فلسطين وقبلته، وعلقته فى مقدمة الحافلة. لاحقتهم قوات الجيش ووضعت الحواجز في طريقهم، ولكنهم نجحوا في اجتيازها، وإلى ان واجهتهم المدرعات “الاسرائيلية” التي قصفت السيارة وامطرت عجلاتها بالرصاص. ودارت معركة عنيفة اسفرت عن مقتل 30 “اسرائيليا” وجرح 30 آخرين. أما المجموعة الفدائية فقد قتل جميع افرادها بمن فيهم دلال، باستثناء اثنين، احدهما هرب والثاني سقط جريحاً.

(2)

كل قادم من “اسرائيل” في عملية التبادل، سواء كان حياً أو في تابوت خشبي، وراءه قصة أقرب الى الاسطورة. ولم تكن الوقائع وحدها المدهشة في ذلك الزمن، الذي يبدو الآن سحيقاً وموغلاً في القدم، وإنما كان المناخ مدهشاً بدوره، فقد كانت المقاومة قيمة عليا توافق عليها العالم العربي بأنظمته وشعوبه. (لا تنس ان أحد قادة السلطة الفلسطينية وصف قبل عامين عملية فدائية في “اسرائيل” بأنها محاولة “حقيرة”!). وكان المقاومون ابطالاً يشار إليهم بالبنان، والانخراط في صفهم أمل يهفو إليه الشباب العربي في كل مكان. ايضا كان العدو واضحاً، ولا مكان للاختلاف حوله. وفي مواجهته كان الاجماع منعقدا على مستوى القطر والأمة. وبطبيعة الحال فإن الصف الفلسطيني كان واحدا رغم تعدد فصائله.

مجموعة سمير القنطار الدرزي اللبناني لم تذكر الهوية الدينية أو القطرية لأي منهم. أما مجموعة دلال المغربي فقد ضمت فلسطينيين ولبنانيين واثنين من اليمنيين. وجميعهم كانوا دون العشرين من العمر.

لم يتم حتى كتابة هذه السطور التحقق من أصحاب الرفات حتى تم تسلمه من “الاسرائيليين”. (اكثر من 190 جثة عربية سلمت) لكن الثابت ان القائمة التي قدمها حزب الله الى “الاسرائيليين” تضمنت اسماء شهداء يمثلون كل ألوان الطيف اللبناني، الشيعة والسنة والمسلمين والاكراد والدروز، واعضاء سابقين في جبهة التحرير الفلسطيني وغيرها من الفصائل الفلسطينية والحزب الشيوعي والحزب القومي السوري.

لم يكن المناخ العربي وحده المواتى لمساندة المقاومة والتعويل عليها، وانما كان الظرف الدولي عنصراً مساعداً على تبني ذلك الموقف. كان الاتحاد السوفييتي سنداً قوياً للأمة العربية في مواجهتها مع “اسرائيل”. فضلا عن ان العرب كان لهم اصدقاؤهم الذين ساندوهم، وأخص بالذكر هنا الصين والهند وبقية دول عدم الانحياز.

مشهد تبادل الأسرى عند رأس الناقورة في لبنان يعيد إلى أذهاننا كل ذلك الشريط، على نحو يحيى في ذاكرة الأمة صفحات من تاريخها القريب، بعضها كاد يطويه النسيان، وبعضها تعرض للمسخ والتشويه، فضلا عن ذلك فإنه يثير اسئلة عدة يتعلق بتفسير الموقف “الاسرائيلي”، الذي ذهب الى حد تجاوز خطوطه الحمراء.

(3)

الصدمة كانت عنوانا لتعليقات النخبة “الاسرائيلية” على صفقة الرضوان، التي حملت الاسم الحركي للشهيد عماد مغنية (الحاج رضوان)، القائد العسكري الأبرز في حزب الله الذي رتب عملية خطف الجنديين “الاسرائيليين” في عام ،2006 وبسببها شنت “اسرائيل” عدوانها على لبنان في صيف ذلك العام. إذ وصفها احدهم بأنها الصفقة البشعة (عوفر شيلح في معاريف 18/7) وقال آخر ان يوم تبادل الاسرى هو يوم اسود في تاريخ “اسرائيل” يجعل المرء يخجل من انتمائه الى البلد (نعومى راجن في يديعوت احرونوت 17/7). أما الكتابات والتصريحات التى تحدثت عن فقدان “اسرائيل” لقدرتها على الردع، وهزيمتها امام حزب الله في حرب ،2006 التي فشلت في تحقيق هدفيها (القضاء على حزب الله واستعادة الجنديين الاسيرين) فهي بلا حصر.

تهمنا في التعليقات “الاسرائيلية” تواتر الاشارة الى ان صفقة التبادل لا ترفع من اسهم حزب الله فقط، وانما من شأنها ان تقوي ساعد المقاومة في العالم العربي وتعيد الى الاذهان أساليبها ومقدراتها، الأمر الذي لا يسبب ازعاجا ل”اسرائيل” فقط، وقد يدفع حركة حماس الى التشدد في شروط اطلاق الجندي “الاسرائيلي” الأسير لديها جلعاد شاليط، ولكنه ايضاً يسبب احراجا للدول “المعتدلة” في المنطقة، التي تصالحت مع “اسرائيل” وانحازت الى السلام كخيار استراتيجي لها (“اسرائيل” لم تعلن ذلك). وفي الوقت ذاته فإن الصفقة تسبب احراجا للسلطة الفلسطينية في رام الله التي ادانت المقاومة ولم تحقق شيئاً على صعيد اطلاق احد من الاحد عشر ألف أسير فلسطيني في السجون “الاسرائيلية”.

الذين دافعوا عن الصفقة قالوا انها تعزز مكانة “اسرائيل” الاخلاقية والقيمية، وتبرهن على ان “اسرائيل” مستعدة لأن تبذل أي شيء آخر من اجل استعادة ابنائها، حتى الاموات منهم. وهذا ما قالته ميري ايزن المستشارة الاعلامية لرئيسة الوزراء (كأن الاحتلال وتجويع الفلسطينيين وابادتهم بالتدريج لا يخدش مكانة “اسرائيل” الاخلاقية).

صحيح ان التقاليد والتعاليم الدينية تدفع “اسرائيل” الى الالحاح على استعادة رفات جنودها، لكن ذهابها في ذلك الى حد تجاوز ما اعتبرته “خط احمر” بالافراج عن سمير القنطار، واعادة رفاة دلال المغربي يعطي انطباعا قويا بأن الأمر اكبر من تلك التقاليد والتعاليم. وفي التحليلات والتعليقات المنشورة اشارة الى ان “اسرائيل” ادركت ان وجود أولئك الاسرى لديها يكلفها الكثير، والضرر فيه اكبر من النفع. خصوصا ان استمرار احتجازهم يغري المقاومة بمحاولة اختطاف جنود “اسرائيليين” جدد، الأمر الذي يعقد الازمة ويفاقمها.

بالتوازي مع ذلك فهناك عوامل أخرى يتعذر تجاهلها. منها مثلا ان “اسرائيل” تريد ان تنهي القضايا المعلقة مع لبنان، بما فيها احتلال مزارع شبعا، لكي تفسح المجال للمطالبة بتجريد حزب الله من السلاح، باعتبار ان وجود تلك القضايا المعلقة هو الذي يبرر تمسك حزب الله بسلاحه، وبإغلاق ملفات القضايا العالقة يسقط ذلك المبرر. علماً بأن تجريد الحزب من سلاحه ليس فقط مطلباً “اسرائيليا” يستهدف افقاده لعنصر قوته ويعد تميهداً مطلوباً قبل القيام بعمل عسكري ضد ايران، ولكنه ايضا مطلب امريكي تبناه مجلس الأمن وأصدر به قرار 1559 الذي صدر عام ،2004 الذي لم يأبه به الحزب.

على صعيد آخر، فإننا لا نستطيع ان نعزل الصفقة عن أجواء “التهدئة” التي تطلق اشارتها في المنطقة العربية (من غزة الى مباحثات سوريا و”اسرائيل” وتركيا). وهذه التهدئة تلتقي عندها مصالح اطراف عدة. ف”اسرائيل” تريدها، لتتفرغ للتعامل مع الملف الايراني، والإدارة الامريكية تتطلع اليها لكي تضمها الى رصيد الجمهوريين الخاوي في انتخابات الرئاسة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. ذلك ان الحماس للتصويت للمرشح الجمهوري جون ماكين السائر على درب بوش، قد يتراجع اذا وجد الامريكيون ان ذلك سيؤدي الى استمرار الحرائق في المنطقة التي تسببت فيها سياسات الأخير.

(4)

صفقة الرضوان التي تمت في السادس عشر من يوليو/تموز الحالي بدت وكأنها ومضة عابرة في الفضاء العربي المعتم، الذي يخيم عليه شعور قوي باليأس، ويعاني من الانقسام والفرقة، بما استصحبه ذلك من شعور بالضعف وانقلاب منظومة القيم السائدة، والافتقاد الى الاجماع العربي حول مختلف قضايا المصير، وعلى رأسها قضيتا فلسطين واستقلال القرار الوطني.

إن شئت فقل ان الصفقة اعادت الى الذاكرة واحدة من لحظات العزة في زمن الاستضعاف العربي، الذي سوغ للامريكيين احتلال العراق، وإعدام رئيسه، ثم التحريض على اعتقال الرئيس السوداني، ومباركة كل الجرائم “الاسرائيلية” والدفاع عنها.

ان حزب الله بلحظة العزة التي استعادها لم يخترع العجلة، ولكنه فعل ما ينبغي ان تفعله أى حركة للتحرر الوطني، تستمد شرعيتها من ايمانها بعدالة قضيتها وتفانيها في الدفاع عنها ومخاطبة العدو باللغة التي يفهمها. وإذا اضفنا الى ذلك الثقة في النفس وفي الله، فإن كل ما يبدو مستحيلا يصبح ممكنا.

ان الدرس الكبير الذي ينبغي ان نتعلمه من الصفقة ان اعداءنا ليسوا بالقوة التي يصورونها لنا، وإننا لسنا ضعفاء بالقدر الذي نتوهمه.
"الخليج"

التعليقات