31/10/2010 - 11:02

عدّلوا الدستور أو غيّروا القانون../ معن بشور

عدّلوا الدستور أو غيّروا القانون../ معن بشور
بعيداً عن التجاذبات الحادة، المحلية منها والخارجية، التي تعصف بالحياة اللبنانية، لا بد من الوقوف أمام عودة الصخب والتوتر والتأجيج إلى بعض الخطاب السياسي الذي تمتلئ به أروقة السياسة اللبنانية ودهاليزها لتصل تداعياته إلى الشارع، فيتطاير منها شرر يشعل، هنا وهناك، ناراً في هشيم الهشاشة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والخدماتية السائدة حالياً في البلاد.

وأياً يكن حجم المؤثرات الخارجية، الإقليمية والدولية، في التصعيد الجديد، فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر قوة الصلة بين لغة الخطاب والعملية الانتخابية الزاحفة قريباً، خصوصاً بين هذه اللغة وقانون الانتخاب المزمع إقراره.

فعلى الرغم من أن لبنان قد دخل عهد الاستقلال عام 1943 في ظل تقسيمات انتخابية تعتمد المحافظة كدائرة انتخابية، وفي ظل انقسام سياسي بين تيارين في جبل لبنان كان لكل منهما حلفاء في المحافظات الأخرى، وعلى الرغم من أن التعديلات التي حصلت على هذه التقسيمات في العهد الاستقلالي الأول أبقت على دوائر وسطى تشمل الواحدة منها أكثر من قضاء، إلا أن الاندفاعة نحو الدوائر الصغرى بدأت مع استقالة الرئيس الراحل بشارة الخوري في أيلول 1952، لتأتي تقسيمات الدوائر الانتخابية في أعوام 1953 و1957 وصولاً إلى 1960 لتوفر أرضية صالحة لتغذية خطاب الغرائز والعصبيات حيث تم تقسيم الدوائر على أساس الأقضية، وأحيانا تقسيم القضاء ذاته إلى دائرتين، فبات الفوز في هذه الدوائر حليفا لواحد من ثلاثة: إما متمول قادر، أو محرض طائفي، أو سياسي يجيد التملّق للأجهزة المتنفذة أو لمن يجمع "الخصال" الثلاث معاً.

ولاحظ القارئون للتاريخ السياسي اللبناني، أن قوانين العهد الاستقلالي التي اعتمدت على المحافظة آو الدائرة الوسطى، قد أدت إلى انقسام سياسي، لا طائفي، أدى بدوره إلى ثورة بيضاء استقال إثرها الرئيس الخوري أمام ضغط معارضين من كل البيئات والمناطق اللبنانية، في حين أن القوانين التالية في الخمسينات والستينات قد أدت إلى انقسامات ذات طابع طائفي حاد، بل إلى أحداث دامية وحروب أهلية.

وبمعزل عن كل العوامل الخارجية، من يستطيع أن ينكر الأثر الكبير لقانون 1957 (الذي أدى إلى إسقاط زعامات كبرى في لبنان، لاسيما في بيروت والشوف والجنوب) في إشعال أحداث 1958 الشهيرة والدامية والتي لم تتوقف إلا بعد انتهاء ولاية الرئيس الراحل كميل شمعون وانتخاب الرئيس الراحل فؤاد شهاب.

ومن يستطيع أن ينكر أن قانون 1960، الذي يُنتظر اعتماده اليوم، قد شطر العاصمة انتخابياً قبل أن تشطرها الحرب أمنياً وعسكرياً بعد عام 1975، وان خط الشام الفاصل بين الدائرة الأولى آنذاك (الاشرفية، الرميل، المدور وميناء الحصن) وبين الدائرتين الثانية والثالثة، قد تحّول إلى خط تماس احترقت على جنبيه بيوت وأحياء، بل احترق وسط بيروت نفسه في ظل تراشق المحاربين من خلف خطوط التماس.

ومن يستطيع كذلك أن يتجاهل الصلة بين تقسيمات 1960 وبين قيام الحلف الثلاثي الشهير عام 1968، والذي لم يكن يجمع بين أقطابه آنذاك (شمعون، اده، الجميل) سوى اللون الطائفي الحاد، والخطاب الطائفي الحاد الذي حاول الاستفادة من الظروف الناجمة عن حرب حزيران 1967 والنكسة التي منيت بها قيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومعها الحركة القومية العربية بكل تلاوينها.

واليوم، من يستطيع أن يضمن للبنانيين ألا يكرر إقرار المجلس النيابي للتقسيمات التي تم اعتمادها في اتفاق الدوحة، أي تقسيمات 1960، الظروف ذاتها التي قادت إلى ما شهده لبنان بعد عام 1975، خصوصاً أن ما نشهده من خطاب سياسي "متأجج" يسود أكثر من منطقة، وأكثر من بيئة، وأكثر من تيار.

ولا احد يستطيع بالمقابل أن ينكر حق بعض الفئات اللبنانية في أن ترى في تقسيمات 1960 تهدئة لهواجس، وطمأنة لمخاوف، واستعادة لتوازن، خصوصاً بعد تجربة مريرة عرفها اللبنانيون مع تقسيمات انتخابية في أعوام 1992 و1996، وخصوصاً عام 2000 حيث كانت "الانتقائية" هي السمة الأبرز لتلك القوانين التي اعتمدت المحافظة كدائرة في مناطق والقضاء كدائرة في مناطق أخرى، ثم أعادت تقسيم المحافظات وتجميع الأقضية لخدمة تصور معيّن لنتائج الانتخابات، وجاء اعتماد القانون ذاته عام 2005 ليكشف أن بعض معارضي "الوصاية السورية" على لبنان هم الأكثر حرصاً على استمرار قانونها الذي وصف بأقذع الأوصاف ثم جرى التمتع بمفاعيله.

غير انه بالمقابل نجد أن من حقنا على هذا البعض المسكون بهواجس محقة أن ندعوه إلى أن يدرس بجدية وشفافية قانوناً يعتمد المحافظة آو الدائرة الموسعة مع النسبية كقانون صالح لطمأنة المخاوف المشروعة ولتمثيل عادل وسليم لكل البيئات المتنوعة والتيارات الفاعلة في البلاد، خصوصاً مع مشهد سياسي ايجابي شبيه لمشهد رأيناه في مطلع الاستقلال حيث انقسم جبل لبنان بين كتلة دستورية وكتلة وطنية وتوزع زعماء المحافظات الأخرى على التحالف مع هذه الكتلة آو تلك.

فالمشهد السياسي اليوم يتكّون من تيارات سياسية جامعة لقوى وتكتلات وأحزاب من كل البيئات والمناطق اللبنانية، اسم احدها تيار الموالاة واسم الآخر تيار المعارضة والاسم الثالث قد ينضوي تحت لوائه من يرى نفسه خارج التيارين الرئيسيين.

ألا يضمن نظام انتخابي يعتمد النسبية في إطار المحافظة تمثيلاً عادلاً للناخب في الاشرفية والرميل والمدور خصوصاً في ظل تحالفات مفتوحة؟ وهل يمكن لنظام كهذا أن يلغي وزن زغرتا والكورة والبترون وبشري في محافظة الشمال، وأن يمنع فوز نواب عنها حتى لو نالوا ما لا يقل عن 45% من أصوات الدائرة الثانية في الشمال، كما جرى عام 2005 التي لو طبقت النسبية فيها لفاز عدد كبير من اللائحة التي ترأسها الوزير سليمان فرنجية والدكتور عبد المجيد الرافعي؟؟

لقد قيل الكثير في مزايا النظام النسبي في دائرة موسعة، وشارك في القول إصلاحيون كبار بينهم قادة أحزاب وهيئات وخبراء ندوات ومنتديات، وكان القول الأخير لهيئة وطنية موثوقة شكلتها الحكومة برئاسة الوزير فؤاد بطرس وبين أعضائها وزير الداخلية الحالي زياد بارود، إلا انه ما ينبغي التأكيد عليه هو أن لبنان بحاجة إلى نظام انتخابي يعزز الوحدة الوطنية ولا يزعزع أركانها، يصون التنوع الثري في المجتمع اللبناني ولا يبدده في متاهات التعصب، يقّرب اللبنانيين من بعضهم البعض ولا يتركهم فريسة الخطاب المغلق والمنغلق في آن وهو خطاب جربه اللبنانيون مراراً وجربوا أكلافه العالية على كل صعيد.

وإذا كانت قوانين الانتخاب السابقة، لاسيما بعد اتفاق الطائف، قد شكا الناس من تجاوزها الفاضح لأحكام الدستور، ومن انتقائيتها ولا عدالتها في تقسيم الدوائر، فإننا نطمح ألا يبدأ العهد الجديد برئاسة الرئيس التوافقي العماد ميشال سليمان بقانون انتخاب يخالف الدستور ويكرر مرارات الماضي، ويعزز الخطاب المتطرف طائفياً ومذهبياً وفئوياً ومناطقياً والذي يتردد صداه بقوة هذه الأيام مع كل تطور محلي أو إقليمي.

صحيح أن هذه التقسيمات قد نص عليها اتفاق الدوحة الذي اخرج البلاد من فراغ رئاسي وفوضى حكومية، ولكن هل يجوز لاتفاق الدوحة أن يلغي اتفاق الطائف الذي كرس كدستور، وان يشّرع قانون انتخاب لا يصمد لحظة واحدة أمام أي مجلس دستوري يكشف مخالفته للدستور؟ فكيف تجري إذا انتخابات في ظل قانون غير دستوري، وفي غياب المجلس الدستوري ذاته؟

وهل يجوز التمسك بالبند الانتخابي لاتفاق الدوحة الذي رحب به اللبنانيون والعرب والعالم لأنه اخرج لبنان من حال الاحتقان والاحتراب والاضطراب، دون أن نعير اهتماماً إلا ما يمكن أن يقود إليه هذا البند من إدخال البلاد في نفق احتقان أهلي جديد، وانقسام مجتمعي متجدد، واضطراب شعبي متزايد.

إن المؤسسات الدستورية في الدولة، وفي ومقدمها مجلس النواب، مدعوة إلى تحمل مسؤولياتها كاملة في الحفاظ على الدستور، وصون أحكامه، واحترام نصوصه، وهذا يضعها أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما إعادة النظر بالتقسيمات الانتخابية الهابطة عليها من نصف قرن على متن جناح "الدوحة" هذه المرة لكي تتناسب مع الدستور، آو أن يتم تعديل الدستور نفسه لكي لا يحمل نصاً يتعارض مع هذا القانون، وفي كل الأحوال لا بد من إحياء "المجلس الدستوري" الذي كان تعطيله أول مسمار في نعش الحياة الدستورية في البلاد.

والمؤسسات الوطنية وفي طليعتها المؤسسات الدستورية، رئاسة ومجلس نواب وحكومة، مدعوة لكي تتصرف على أن مقياس دستورية أي قانون ووطنيته وتوافقيته، سواء كان هذا القانون انتخابياً أم غير انتخابي، إنما تكمن في مدى مساهمته في الحفاظ على العيش المشترك، لغة وخطاباً وسلوكاً وبيئة لأن سلطة "العيش المشترك" التي نصت عليها مقدمة الدستور، هي مبرر وجود لبنان، لا تحيا وتزدهر وتتقدم إلا حين تعلو المواطنة على كل العصبيات.

فهل نحن أمام قانون انتخاب يشجع خطاباً يعزز المواطنة وفكرة العيش المشترك؟ أم أننا أمام تقسيمات انتخابية تؤجج النعرات والعصبيات الضيقة وتعيد إنتاج خطاب كان سبباً من أسباب مآسينا؟

وهل يرتقي ساستنا، لاسيما من شارك منهم في اتفاق الدوحة فيتجاوز البند الانتخابي لصالح قانون أكثر عدالة وشفافية ووحدوية؟ هل سنجد بين قادتنا من يملك الجرأة والشجاعة والصدق ليقول: من اجل وحدة لبنان وقعت على اتفاق الدوحة ومن اجل هذه الوحدة أدعو إلى تعديل الفقرة الانتخابية منه؟!..

التعليقات