31/10/2010 - 11:02

عن ثقافة الهروب../ فادي العلي*

عن ثقافة الهروب../ فادي العلي*
منذ أن بدأ الصراع على النفوذ والسلطة في الأراضي المحتلة ما انكفأت الأقلام والمنابر عن تحليل ما جرى، وما ادخرت جهداً في البحث عن بقعة ضوء قد توصلنا لنهاية هذا النفق، ولأن المجتمع الفلسطيني مجتمع حي كغيره من المجتمعات المحيطة به، فهو يمتلك من النخب الفكرية والاقتصادية والسياسية مما يؤهله دائماً إلى القدرة في رسم هوامش كبيرة نجد فيها متسعاً للكثير من الحوار والجدل والإختلاف الذي قد يصل أحياناً إلى مشارف الاقتتال.

إلا أن هذه النخب وقعت في العجز الآن، وحالتها هذه ليست بمنفصلة عن حالتها التاريخية على الأقل على مدى سنوات الثورة الفلسطينية المعاصرة، وباتت جزءاً يدور في فلك النظام السياسي الفلسطيني القائم بمؤسساته وفصائله، كما أنها لا تمتلك المبادرة في أن تلعب دوراً خارج الدوائر المرسومة لها سلفاً، بل وأكثر من هذا هي تتماهى في أحيانٍ كثيرة مع هذه القوى وتتأثر بها وتخوض معها في ممارسة الطقوس الفصائلية المعهودة.

وبالرغم من تناول الكثير من الأقلام الفلسطينية والعربية لهذه الطقوس السياسية في العمل الوطني والإسلامي الفلسطيني، إلا أن هناك تقليداً يُمارس منذ سنوات طويلة في دوائر صنع القرار وقد نجح أصحابه في ممارسته بمنتهى الخبث واستطاعوا الوصول به إلى درجات متقدمة من الإقناع الذي لا يخلو أحياناً من الإعماء..

ولأن حركة فتح صاحبة الإدعاء التاريخي في أنها العامود الفقري للمنظمة، ورائدة العمل الوطني، وبأنها ديمومة الثورة، لذا فهي تحمل على عاتقها أيضاً بأنها الأولى من بين الفصائل في ممارسة هذا التقليد، وهو الهروب.. الهروب من المسؤولية والإختباء خلف الشعارات والالتزامات الوطنية الكبيرة، واستغلال المنعطفات والتحولات الطارئة وتحويلها إلى ذريعة لطمس كل الممارسات البعيدة عن المصلحة الوطنية وإخفاء تداعياتها أو إلصاقها بالغير، ولهذا السلوك شواهد كثيرة لا يتطلب العثور عليها إلا الغوص في قراءة موضوعية لتاريخ المقاومة الفلسطينية المعاصر، لأنه بعودة صغيرة لهذا التاريخ سوف نجد مثالاً صارخاً على هذا الهروب، فوجود المقاومة في لبنان وممارسات دولة الفاكهاني والتورط في الحرب الأهلية اللبنانية والغرق في دماء بعض قرى لبنان، وصولاً إلى الانسحاب من بيروت، والانتقال إلى منافي السفن ونسيان المخيمات البائسة، مرحلة غنية بالتفاصيل والأخطاء والتجاوزات الأخلاقية والوطنية، وبالرغم من ذلك تم الهروب من أسئلتها بالتمترس وراء شعارات، أكثرها شهرة }الصمود الأسطوري في بيروت{ نقطة وانتهى..

وبهذا يتم اختزال مرحلة بأكملها بمفردات لا أشكك بصدقيتها لكن أشك بصدقية من اختبأ وراء هذه الكلمات.. ومن ثم تتوالى عمليات الهروب، فيتم الاختفاء من جديد خلف ظل انتفاضة الحجارة والخوض في شعارات جديدة والإبقاء على السلوك الذي تجذر في زواريب الثورة، فمنظمة التحرير تبنت الإنتفاضة الأولى وحملت شعاراتها إلى المحافل الدولية، وأعلنت دولة المنفى، لكنها لم تتخلص من ثوبها البالي الذي لبسته في بيروت، بل حملته إلى تونس ليزداد اتساخاً، فتحولت منظمة التحرير إلى أغنى ثورات العالم ممثلةً لشعبٍ فقير يرزح تحت قهر الإحتلال وبؤس المخيمات.

ومن هنا تمت عملية الهروب مرة أخرى، والدخول في دهاليز المفاوضات وصولاً إلى مسخ أوسلو، وفي ظله تمت عملية التحول والإختباء من شعارات الدولة التي ولدت في الجزائر تحت ذريعة عناوين براقة جديدة، أهمها الإنجاز الوطني الكبير وهو اتفاق اوسلو، وبناء الكيان الفلسطيني الأول وإظهار المكاسب الصغيرة لهذا الاتفاق، فإذا بنا ننتقل من تونس إلى رام الله وغزة وعفا الله عما مضى.. بدءاً من هدر الأموال في تونس وحماقات صرفها ووصولاً إلى دولة المنفى التي تم اختزالها إلى سلطة للبلديات ومارافق ذلك من تصفيقٍ حار..

ومن هروبٍ إلى آخر.. وصلنا إلى ما بعد فشل اتفاق أوسلو، ولأن الهروب نهج، فتم الاختباء هذه المرة خلف الانتفاضة الثانية مما أتاح التهرب لمن لا مصلحة له بأن يُسأل أو أن يُحاسب عن فشل ما يقارب العشر سنوات من التفاوض والتغطية على جرائم الاحتلال، وسوء الإدارة والفساد المالي والأخلاقي لأجهزة السلطة ومؤسساتها.

ولكونها هي الأخرى قطباً ثانياً على الساحة الفلسطينية، لذا فإن حركة حماس تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية العملية لما آلت إليه الأمور في الأراضي المحتلة، وهي أيضاً مقدامة ومثابرة على نهج الهروب وإن كان على طريقة مختلفة عن حركة فتح التي تمتلك قدرة فائقة على التخلص من أوراق الماضي وامتطاء أي موجة جديدة وتزعمها، على عكس حركة حماس صاحبة الباع الطويل في الهروب من استحقاقات المستقبل.. ولعل ما حدث في غزة خير دليل على ذلك، فحماس لم تنقلب على مؤسسات الرئاسة بقدر ما انقلبت على الانتخابات التي أوصلتها إلى السلطة، كما انقلبت على استحقاقات إدارة شؤون الشعب ومتطلباتها، فجنون حماس جاء بعد عجزها عن فك الحصار وعن عدم قدرتها على الإجابة على أسئلة المواطن المعيشية، وبعد تورطها في اقتتال داخلي أفقدها الكثير من احترامها كحركة مقاومة في الأوساط الفلسطينية والعربية، إضافة إلى تناقض ممارساتها في إدارة ما لديها من سلطة مع أبرز شعاراتها الإنتخابية واسم كتلتها في المجلس، فشعار الإصلاح والتغيير تحول في الممارسة إلى إقصاء وتعيين، لذا فإن حماس هربت بانقلابها في غزة من استحقاقات السلطة ومتطلباتها من جهة، ومن مخاوف تشرذمها داخلياً من جهة أخرى، واختبأت كشريكتها في الوطن فتح مرة أخرى وراء مبررات وطنية كبرى والتي إن صحت فهي سوف تحول شريحة واسعة من المجتمع الفلسطيني إلى مجموعة من العملاء للإحتلال وشبح الجنرال دايتون..

وبالرغم من ذلك، فإن مأساة المواطن الفلسطيني لم تعد مقتصرة على نرجسية وعبثية سلوكيات هاتين الحركتين، بل أن جزءاً من النخب الفلسطينية بات يمارس سلوكاً مشابهاً، لكن من نوعٍٍٍ آخر..
فهذه النخب، وأنا لا أملك الحق في أن أشملها وبأن أضعها على درجة واحدة من المسؤولية، انهمكت في البحث عن أسباب ما حصل وتداعياته، فمنهم من وجد في ممارسات فتح وفوضاها طريقاً معبداً لتحميلها كامل المسؤولية، ومجموعة أخرى وجدت في شبق حماس للسلطة ومراهقتها السياسية عاملاً موضوعياً آخراً يُودي بالمشروع الوطني إلى التهلكة والانقسام، بينما وجد البعض إضافةً إلى هذه العوامل، في وهن اليسار وعجزه عاملاً لايمكن إغفاله، وقد يتفق الجميع على وجود العامل الأساسي في ترسيخ حالة الإنقسام هذه ألا وهو الإحتلال، لكن الجدل القائم الآن هو حول أسباب ضعف مناعتنا، فالاحتلال واضح وفاضح بممارساته تجاهنا وهو لم يكن يوماً يعمل لوحدتنا...

وبقراءة سريعة لتفاصيل هذه الرؤى لا نجد أنفسنا في خلاف مع أصحابها، بل ونستطيع أن نقوم بجمع كل هذه العوامل المذكورة ووضعها في حزمة واحدة، ولكن في الوقت ذاته قد نجد أنفسنا أمام حلقة مفقودة يغفلها الكثيرين، ولأن إغفال هذه الحلقة وعدم إدراجها ضمن جملة العوامل التي ساعدت على نشوب هذا الصراع، يعني الهروب منها.. لذا تصبح الحقيقة هنا ناقصة ومجتزأة ومنتقاة وهذا يتناقض مع أصول البحث الموضوعي, وعليه لا أجد مناصاً من طرح بعض الأسئلة والتي أعتقد بأن الإجابة عليها ممكنة بل وماثلة أمام أعيننا، ومن هنا نبدأ..

فنحن، وعلى مدى سنوات طويلة، تغنينا بتجربتنا الديمقراطية ولطالما نظرنا إلى هذه التجربة على أنها جعلت من هذا المجتمع حالة متميزة نسبة إلى غيره من المجتمعات المحيطة بنا، ومن هنا لا نستطيع تجاهل حقيقة أن الشارع الفلسطيني في الضفة والقطاع والقدس الشرقية مارس عمليات انتخابية كثيرة ومتعددة قبل ولادة السلطة الوطنية مع إدراك الإختلاف مابين هذه العمليات المذكورة من حيث الشكل وحجم التمثيل واتساعه والانتخابات الرئاسية والتشريعية والبلدية الأخيرة، لكنها أي العمليات الانتخابية الصغيرة والتي كانت قد خيضت قبل نشوء السلطة كانت مؤشراً صادقاً يعكس صورة واضحة للمزاج الشعبي العام وحجم القوى الناشطة في أوساطه، لذا فإن المواطن الفلسطيني مارس لوناً ديمقراطياً، ونستطيع أن نذكر انتخابات مجالس الطلبة في جامعات الضفة والقطاع وكانت في معظم الأحيان قوائم حركة فتح هي الناجح الأول وتكررت هذه الحالات وبشكل شبه منتظم حتى بعد توقيع اتفاق أوسلو.

وبناء على ما ذُكر بات السؤال جاهزاً للطرح، فإذا اتفقنا مع ما يطرح في أن نتائج الانتخابات التشريعية والبلدية الأخيرتين جاءتا كعقاب ورد على ممارسات فتح المتراكمة والمرفوضة شعبياً، إذاً لماذا عادت هذه الأصوات لتنتخب قوائم فتح في انتخابات مجالس الطلبة والنقابات التي شهدتها الأراضي المحتلة أخيراً؟؟ في الوقت الذي لم نشهد به أي تحول في السياسات والممارسات التي أسقطت هذه الحركة في الانتخابات التشريعية والبلدية.. وكيف استطاعت حركة حماس أن تحقق نجاحات عديدة أيضاً في الانتخابات الطلابية والنقابية؟؟ بالرغم من تورطها في الاقتتال الداخلي وافتضاح الكثير من ممارساتها مما جعلها بعيدة عن كل المعايير الأخلاقية والوطنية التي لطالما تشدقت بها..

ومن هنا لا نستطيع أن نُعفي شرائح واسعة من المجتمع الفلسطيني من المسؤولية الوطنية لما آلت إليه الأمور الآن، لإنها وعلى مدار منعطفات كثيرة وفرت الغطاء الشعبي لهاتين الحركتين ولاعتبارات كثيرة، لم تكن صائبة في كثير من الأحيان.. وللتاريخ حكمه في هذا..

ولأن فتح تستمد شرعيتها في السلطة بناءاً على نتائج انتخابات الرئاسة، ومثلها حركة حماس تستمدها من انتخابات التشريعي، بات الشارع الفلسطيني الذي انتخب، شريكاً في المسؤولية، وإن نفى البعض ذلك، فهذا يدفعنا للتساؤل عن جدوى وجود عملية ديمقراطية في مجتمعنا؟ ألا تعني هذه العملية بأن يتحمل الجميع مسؤولية التمثيل والقرار وتداعياته؟ هل نستطيع إلصاق القدسية بالشعب الفلسطيني واستحالة أن يخطئ بخياراته؟ هل التجربة الديمقراطية في فلسطين مُنزهة وبعيدة عن الطقوس المتداولة في معظم الديمقراطيات في العالم؟ ألم يحضر المال السياسي والابتزاز الاجتماعي بقوة في انتخاباتنا؟ هل غاب قهر الاحتلال وبؤس الظروف المعيشية عن المشهد الفلسطيني يوماً؟ بل وأكثر من ذلك.. هل وقع الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع ضحية للعبة الهروب التاريخية؟ ألم تُجسد الانتخابات الأخيرة هروب شرائح مجتمعية واسعة من واقع حركة فتح إلى مجاهل حماس؟ ولماذا يتجاهل الشارع الفلسطيني دور بعض القوى الحية وشخصيات مرموقة يشهد التاريخ والحاضر بنزاهتها؟ وهل يبقى الشارع ومعه قضيته في حالة تأرجح شبه منتظمة بين الحركتين دون حدوث أي تغيير يذكر في سياساتهما؟

لذا إن أردنا أن نبحث وبطريقة موضوعية عن مكامن الخلل في الواقع السياسي الفلسطيني علينا أن نُشرك الجميع بالحوار، وفي المسؤولية أيضا..

فالنخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقوى والمستقلين والمثقفين والشرائح الأخرى من المجتمع الفلسطيني، جميعهم داخل دائرة المسؤولية، إلى أن يتخلصوا من ثقافة.. اسمها الهروب.

التعليقات