31/10/2010 - 11:02

عن سقوط “الحرة” وترنح شقيقاتها../ فيصل جلول

عن سقوط “الحرة” وترنح شقيقاتها../ فيصل جلول

في خمسينات وستينيات القرن الماضي، كان شأن الإعلام العربي كشأن العديد من وسائل الإعلام الحكومية الغربية يخضع للرقابة، مع فارق في المستوى المهني والتقني والوعي السياسي تظهر معه الرقابة عندنا مباشرة وتسلطية، وتظهر عندهم موحية وتواطؤية. حينذاك كانت “الأمية” الإعلامية عندهم محدودة وعندنا واسعة، وكانوا يخوضون حرباً باردة وكنا بيادق فيها.

لقد نشأت وسائل الإعلام الغربية الناطقة بالعربية في هذا السياق، وكانت تساهم في صناعة الرأي العام العربي وفق ما يشتهي أصحابها يعينها في مهمتها بؤس اعلامنا وقصوره. هكذا كان المديح والإطناب والمبالغة وتزوير الحقائق والسجال والتهجم الفظ في صحفنا، يقابله احتراف ونصوص هادئة وتفاصيل اخبارية منظمة وموضبة بأسلوب دقيق وقراءات تحليلية مصاغة بتقنيات علمية متقدمة، تصل الى جمهورنا عبر الأثير الأجنبي فتبدو خلابة وفاتنة وبالتالي موضع ثقة وغلبة، هذا إذا أردنا إهمال الأخبار التي تنقل لنا عناصر تقدمهم وتفوقهم على كل صعيد في مواجهة تأخرنا وقصورنا.

الراجح ان معظم الراشدين العرب في تلك الفترة كانوا يمحضون ثقتهم لـ“صوت امريكا” وراديو “مونت كارلو” وإذاعة “لندن”، ويعتبرونها مصدراً مفضلاً لمعرفة ليس فقط ما يدور في العالم، وانما أيضا في بلادهم. ولعل حدثاً من طراز حرب يونيو/ حزيران يونيو عام 1967 كان يزيد من ثقة الرأي العام بالإعلام الأجنبي الناطق بالعربية. ذلك أن وسائل الإعلام المصرية والعربية عموماً، كانت تؤكد عشية الحرب ان زوال “إسرائيل” بات قاب قوسين او أدنى بفضل القوة العسكرية العربية، وفي اليوم الاول للحرب كان إعلامنا يؤكد سقوط مئات الطائرات “الاسرائيلية” في حين كانت الإذاعات المذكورة، ومن بينها “الإسرائيلية” تنقل وقائع الهزيمة وتفاصيلها معززة بالأرقام والشواهد، لنكتشف من بعد أننا كنا ضحية لخدعة إعلامية تاريخية، فشكلت الحرب انتصاراً ساحقاً للإعلام الأجنبي وسقوطاً مدوياً للإعلام العربي.

الثابت ان وسائل الإعلام الأجنبية الناطقة بالعربية ظلت تصنع الرأي العام عندنا على هواها حتى نهاية الحرب الباردة، حيث بدأت انطلاقة جديدة سواء عبر افتتاح صحف بتمويل عربي في باريس ولندن، أو عبر تأسيس مجموعات اعلامية حرة في العالم العربي بوسائل ومنهجيات جديدة. وكانت تجربة “الجزيرة” محطة فاصلة في هذا المجال، إذ وضعت قواعد تعبير جديدة وحطمت جدران الرقابة العربية حتى صار معها اعلامنا يقاس حقاً بما قبل، وما بعد ظهور هذه القناة.

وإذ تسببت “الجزيرة” بثورة حقيقية في الإعلام العربي المقيم، فقد طرحت بالمقابل تحديات جدية على الإعلام الأجنبي الناطق بالعربية، فلم يعد بوسع “صوت أمريكا” و”اذاعة لندن” وراديو “مونت كارلو” شيطنة حركات المقاومة في فلسطين والعراق ولبنان عندما ترد في “الجزيرة” بصفتها الايجابية، ولم يعد بوسع الاذاعات المذكورة حجب انحياز السياسات الغربية في الصراع العربي “الاسرائيلي” عندما ترد في الجزيرة بوصفها سياسات مزدوجة المعايير او منافقة في ما تدعيه من حرص على احترام القيم الأخلاقية والحقوقية والقانون الدولي.

ومثلما كان الإعلام العربي مجبراً على اعادة التموضع بالقياس الى “الجزيرة”، كان الإعلام الأجنبي الناطق بالعربية مجبراً هو الآخر على إعادة التموضع، فكان أن دخلت “اسرائيل” على الخط وانشأت فضائية ناطقة باللغة العربية، وانشأت بريطانيا محطة ال “بي بي سي” العربية ومثلها فعلت فرنسا عبر “فرانس 24” مؤخراً، ولمواكبة حربها على العراق بادرت واشنطن الى انشاء محطة “الحرة”، ناهيك عن تجارب أخرى على غرار “اورو نيوز” و”راديو سوا” .. الخ.

لقد صار معروفاً أن وسائل الإعلام المذكورة الناهضة على موازنات ضخمة وقدرات تقنية عالية وطواقم مهنية رفيعة المستوى، اخفقت في التنافس مع “الجزيرة” على صناعة الرأي العام العربي، فقد انهارت الفضائية “الاسرائيلية” الناطقة بالعربية بسرعة قياسية وتعثرت ال “بي بي سي” وتموضع الإعلام الفرنسي على مقربة من “الجزيرة”، ونشهد اليوم انهيار “الحرة” بطريقة مدوية وذلك لأسباب عديدة، أولها عجز المحطات المذكورة عن تسويق الاحتلال “الاسرائيلي” والأمريكي بوصفه قابلة لتوليد الديمقراطية فيما يظهر على شاشة “الجزيرة” على حقيقته العارية. وثانيها أن القيم التي حاولت تلك القنوات نشرها كانت تقدم على الشاشة العربية بوصفها غير قابلة للتصدير، وثالثها أن احتكار الغربيين لمصادر الأخبار في العالم ما عاد متاحاً بفضل تدفق المعلومات عبر النت من جهة، وبفضل مصادر اخبار “الجزيرة” والمحطات الفضائية الاخرى الخاصة. ورابعها ان تلك القنوات كانت مجبرة على المرور عبر “الجزيرة” في تغطية احداث معينة يتعذر عليها تغطيتها بوصفها طرفاً في النزاع ومنبوذة من العرب المعنيين به، وخامسها ان الإعلام المقيم في العالم العربي كان مجبراً في حربي لبنان والعراق، وأحداث أخرى، على الاصطفاف في خط “الجزيرة” كي لايفقد جمهوره، الأمر الذي كان يحرم الإعلام الأجنبي من حلفاء محليين في تغطيته الموجهة والمنحازة للحربين المذكورتين ولأحداث أخرى لا تقل شأناً.

لهذه الأسباب انهارت “الحرة” وسقطت الفضائية “الاسرائيلية” بالضربة القاصمة، أما وسائل الإعلام الأجنبية الاخرى الناطقة بالعربية فهي تدين ببقائها على قيد الحياة لوقوفها على مقربة من “الجزيرة”، لكن الى متى؟
"الخليج"

التعليقات