31/10/2010 - 11:02

عن غياب السياسة وتهميش الدولة في واقعنا العربي../ ماجد كيالي

عن غياب السياسة وتهميش الدولة في واقعنا العربي../ ماجد كيالي
ارتهنت السياسة في عالمنا العربي، في أغلب أحوالها، إلى "قضايا كبرى"، من نمط التحرر من الاستعمار، والوحدة العربية، وتحرير فلسطين، كما ارتهنت إلى قضايا غائية، وأيدلوجية، تتمحور حول الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه البلدان العربية ومجتمعاتها؛ حيث ثمة من أراد العودة إلى عهود الإسلام الأولى، وثمة من أراد الذهاب نحو الاشتراكية، وثمة من حاول تمثل النمط الغربي.

في كل هذه الأحوال فإن التيارات والقوى العاملة في حقل النشاط السياسي في المنطقة العربية استغرقت في عالم التمني، والرغبات، بدل أن تتأسس على تعضيد وضعها بسياسات تتأسس على وعي الذات وخلق الوقائع وتوليد المصالح.

على الرغم من ذلك فإن الحديث عن نشاط سياسي في البلدان العربية هو أقرب إلى حديث مجازي، فهذا النشاط كان حكرا على فئات مدينية متعلمة، وتطمح إلى دور سياسي، بمعنى أنه لم يشمل أغلبية المجتمع. أما اللحظة التي جرى فيها إدخال أو إقحام المجتمعات في السياسية فهي تلك التي شهدت ظهور زعامات شعبية، من طراز عبد الناصر في مصر، وياسر عرفات عند الفلسطينيين، أو لدى تصدر حزب البعث للسلطة في سورية والعراق، والحزب الاشتراكي في اليمن "الجنوبي"، إضافة إلى ظاهرة الرئيس البشير في السودان.

والمعنى أن السلطة في كل هذه الحالات هي التي استدعت إقحام فئات جديدة (غالبا ريفية) إلى السياسة، وبالتالي إلى المدينة، من دون الاشتغال على إدخال الحداثة بكل معانيها وتجلياتها إلى الريف (بما لايقتصر على إشاعة التعليم والتوظيف في الإطارات الحكومية فقط).

وقد نجم عن "ترييف" السياسة، ظاهرتان أولاهما، النكوص بالسياسة من كونها تنبني على علاقات وإطارات ومفاهيم حداثية (تتمركز حول الدولة والعقل والحرية)، إلى كونها مجرد طقوس رمزية وشعارات رغبوية، وإطارات تنبني على علاقات بطركية ونفعية (تتمركز حول السلطة والقدرية والاغتراب). وهذا ما يفسر خبو السياسة في المدينة العربية (بالقياس للنصف الأول من القرن العشرين)، والذي نجم عنه (فيما بعد لاسيما منذ السبعينيات) خبو الحياة المدينية في معظم البلدان العربية (لجهة تراجع الأنشطة المدينية التي كانت تتمحور حول الثقافة والسينما والمسرح والفنون التشكيلية والحركة الطلابية في الجامعات).

أما الظاهرة الثانية، فتتمثل في أن السياسة، وبرغم طابعها الشعبوي، باتت حكرا على السلطة (وتوابعها)، حيث باتت شغلة فئات محددة، في واقع يفتقر للمشاركة السياسية الشعبية. وقد عملت السلطات، باحتكارها وسائل الهيمنة، والمجال العام (التعليم والتشغيل والإعلام والمؤسسات العامة) على تخليق قاعدة شعبية مرتهنة لها، تسهم بإعادة إنتاجها، وتجدد حيويتها، وتضفي عليها بعدا شعبيا. طبعا لايمكن الاستنتاج هنا بأن المجتمعات العربية لديها استعدادات ذاتية للقبول بذلك، فثمة عوامل موضوعية مؤثرة، ضمنها غياب مفهوم المواطنة، والانهماك بتحصيل لقمة العيش، وتدني مستوى التعليم، وسيادة نوع من الوعي المغترب إزاء السلطة.

عموما فإن الغرض من هذا الاستدراك التمييز بين تحول السياسة إلى حقل للعمل العام، أي للمجتمع، وبين السياسة باعتبارها عملا من اجل صالح سلطة معينة، فهي بالمعنى الأول تنتج معنى التفاعل والتواصل والتداول، في حين إنها بالمعنى الثاني تنتج معنى القطع والإقصاء والهيمنة.

بالمحصلة فإن حضور السياسة كشكل، أي كطقوس ورموز وشعارات، أدى إلى غيابها من حيث الجوهر والمضمون، لاسيما لجهة كونها تتأسس على بناء الدول وصياغة المجتمعات وإدارة الحكم وتحقيق الأمن والنماء للمواطنين.

هكذا شهدنا ضمور الدولة، وتغوّل السلطة، بدليل طبيعة نظام الحكم في معظم البلدان العربية، حيث شيوع ظاهرة الدولة الأمنية، والتسلط على المواطنين، وتهميش المؤسسات، والوصاية على البلاد والعباد. ويقترن مع كل ذلك ظاهرة على غاية في الأهمية تتمثل بتغييب الدستور، وعدم مساواة المواطنين القانون، واغتراب السلطة عن المجتمع، والاستخفاف بمؤسسات العمل العام، وغياب مفهوم تداول الحكم أو السلطة.

المفارقة أننا إذا راجعنا أدبيات غالبية الأحزاب العاملة في البلدان العربية، فسنجد إنها غرقت في الشأن السياسي (في موضوعات الوحدة ومواجهة إسرائيل وتحرير فلسطين)، وضمن ذلك مسألة السلطة، أو إنها غرقت في الشأن الاقتصادي (بين خياري الاشتراكية والرأسمالية)، لكن هذه الأحزاب تعامت، أو تجاهلت (عن قصد أو من دونه) مسألة الدولة، أو مسألة غياب الدولة، وهي جوهر السياسة.

هكذا لم يلحظ احد أن الدساتير في معظم البلدان العربية تحولت إلى مجرد نص، لا معنى له، أو إلى ورقة بيد السلطة، تبسطها أو تغلقها أو تحورها، وقتما تشاء، بدل أن تكون بمثابة عقد ينظم العلاقة بين الدولة والمواطنين. كما لم يلحظ احد أن عدم المساواة أمام القانون زاد غربة المواطنين واضعف هيبة الدولة المرئية، لصالح السلطة وتجلياتها. أما السلطات التشريعية (البرلمانات) فغدت اقرب إلى ندوة عامة، أو هيئة تستجيب لحاجات السلطة، أكثر من كونها هيئة تشريعية تتوخى الصالح العام، وتمثل مصالح المواطنين (ناخبيها). أيضا فإن فكرة المواطنين لم تأخذ، هي الأخرى، الحيز المناسب من الاعتبار في ادراكات الأحزاب العربية، التي قدست مفهوم الجماهير، أي الكتل المنمّطة (بمعنى الجماهير في ذاتها)، على حساب مفهوم المجتمعات (حيث الجماهير لذاتها)، وحيث المواطنين الأحرار، الواعين لذاتهم.

وكل ذلك يفسر غياب أحزاب أو حركات سياسية تهتم بالقضايا المباشرة والمصالح العامة، كي تبني عليها، فيما بعد، النهوض السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فلم يتم تشكيل هكذا إطارات للعمل من اجل صون الدستور وسيادة القانون وفصل السلطات، ولم تأخذ هذه الأحزاب على عاتقها ترشيد نظام الحكم، وإرساء دولة المواطنين. ولم تنشأ أحزاب أو جماعات ضغط تعنى بالارتقاء بالتعليم والثقافة والفنون والصحة والبيئة وتنمية مكانة المرأة، والاهتمام بمشاغل الشباب.

الآن، لم تتبدل الأحوال كثيرا، مع دخول مفهوم الديمقراطية إلى حيز التداول في السياسة العربية (لاسيما مع العقد الأول من العقد الحادي والعشرين)، بعد إخفاق المشاريع السياسية القومية والاشتراكية والإنمائية، وبعد تنامي ظاهرة الإسلام السياسي، ومشاريع الوصاية الغربية على المنطقة العربية.

وفي الواقع فإن إدراكات النخب السياسية لمسألة الديمقراطية، ليس أحسن حالا من ادراكاتها للقضايا السياسية الكبرى التي كانت تصدت لها سابقا، حيث يتم التعامل مع الديمقراطية وكأنها معطى جاهزا، يحتاج فقط لتبنيه، في مجمل الأوضاع العربية، في تجاوز لمسألة غياب الدولة، بما هي دولة مؤسسات وقوانين ومواطنين. وعليه فإن مسألة المسائل هي إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة في العالم العربي، فالدولة قبل الديمقراطية، وعندما يستطيع العالم العربي أن يجتاز عتبة الدولة، أي دولة المؤسسات والدستور والقوانين والمواطنين، حينها يمكن له أن يجتاز العتبة باتجاه الديمقراطية؛ وبدون ذلك سيتعذر تحقيق الديمقراطية الحقّة، كما تعذر تحقيق غيرها من الآمال والرغبات.

التعليقات