31/10/2010 - 11:02

عن مأزق اليسار والوطن../ فادي العلي*

عن مأزق اليسار والوطن../ فادي العلي*
منذ وقوع النكسة الثانية في قطاع غزة، أو التحرير الثاني كما يراه البعض، بدأ الجدل عن مأزق اليسار الفلسطيني وغياب دوره بالتصاعد، وفي وعلى ضوء ماتناولته بعض الأوساط الفصائلية اليسارية الفلسطينية عن نيتها تشكيل نواة لجبهة يسار موحدة تعيد التوازن إلى الساحة الوطنية..

وبالرغم من كثافة ما تم عرضه من رؤى حول أسباب هذا المأزق وأسبابه المتعلقة بالجوانب الفكرية والبنيوية والتنظيمية، إلا أن هذه الإسهامات لم تنجح حتى وقت قريب من تسليط الضوء على الجوانب العملية والتي تختصر بمضامينها الكثير من الإجابات.. حول مأزق اليسار.

ولأننا على علم بأن أصحاب وجهات النظر بمعزل عن مشاربهم السياسية والفكرية، يبحثون دائماً عن دلائل ووقائع تدعم ما يحاولون عرضه وتأكيده من أفكار، وقد يكون هذا مشروعاً، لكن ما ليس مفهوما هو قدرة البعض المسكون بهاجس عودة اليسار إلى دوره، على القيام بعملية تشريح للحالة اليسارية الفلسطينية طبقاً لأهوائه دون الأخذ بعوامل موضوعية كان ومازال لها الدور الأبرز في وصول أقطاب اليسار الفلسطيني إلى هذه الأزمة..

فالمسألة ليست دفاعاً، بل هي محاولة لتوصيف ما حملته الأحداث من تداعيات وجدت في وطننا انعكاسها الأكبر، لذا لا يمكن تجاهلها، على الأقل هذا ما يمليه الحد الأدنى من الموضوعية..

فسقوط المنظومة الاشتراكية وتفكك الإتحاد السوفيتي وزحف العالم إلى جحيم القطب الأوحد، وإفرازات هذه التحولات التاريخية على منطقتنا و ترجمتها الأولى في حرب الخليج الثانية وهزيمة العراق ومعه كل العرب، وبعدها الذهاب إلى مدريد واغتيال الانتفاضة الأولى بتوقيع اتفاق أوسلو، ودخول منظمة التحرير إلى الأراضي الفلسطينية واستقبالها مع اتفاقها بترحيب شعبي كبير، بالرغم من أنه قد لا يطيب للبعض وصف ما حدث على أنه ترحيباً وغطاءاً شعبياً كبيراً، ولا أدعي بأنه كاملاً، إلا أنه حقيقة يؤكدها الاندماج الواسع لشرائح واسعة من المجتمع الفلسطيني داخل مؤسسات السلطة الوطنية، وانتشار الأوهام مثل الطاعون بين صفوف الناس حول الاستقلال والسيادة والعلم والسجادة الحمراء.. أوهاما لم يستطع اليسار من منع انتشارها، وشاركه في عجزه هذا كافة الأطياف السياسية الأخرى، فهذا الوهم جاء بمباركة عربية شبه كاملة، بدعم دولي حتى النخاع، وفي ظل هزيمة عربية شاملة لم يكن اليسار بطلها الوحيد..

ولأن الموضوعية لا تقتضي جلد الذات، فقد يكون من الأجدر بأصحاب السجال أن يبتعدوا عن فصل عوامل الخلل الذاتي عن السياق الموضوعي المحيط بها، لان في ذلك نتيجة حتمية تبقينا داخل دوائر العدمية..

ولأن تناول اليسار الفلسطيني ومأزقه وانكماشه مسألة في غاية الأهمية، فقد يكون مهما بأن يرتبط ذلك بوضع اليد على مكان النزيف، وتلمس ما يعيق تقدم هذا اليسار الذي استطاع يوما بأن يجعل من هذا العالم مسرحا لفلسطين، فليس مخطئا من تناول عوامل الخلل الذاتي لليسار الفلسطيني بجوانبه الفكرية والنظرية وإلى جانبه الكم الهائل من الأخطاء في آليات العمل التنظيمي واليومي، ولكن تجاهل ما تعرضت له قوى هذا التيار وخاصة بعد ولادة اتفاق أوسلو وما ترتب عليه من التزامات قدمتها السلطة الوطنية للدول الراعية والمانحة بمحاربة الإرهاب تحت عنوان حماية عملية السلام وما تبعه من حملات ممنهجة من الحصار المالي وتجفيف لمصادر الأموال، وصولا للتضييق والتهميش والملاحقة بكل أشكالها، إضافة إلى تفكك تحالفات هذه القوى العربية والدولية جراء التحولات الدولية المذكورة سابقا، كل هذا جعل من هذه القوى خارج دائرة التأثير أمام مد من نوع جديد، وجد طريقا معبدا أمامه في ظل هيمنة أجواء الهزيمة على الوطن العربي.. والفلسطيني، كان مداً دينياً وجد صناع القرار في العالم آنذاك أن تعاظم وجوده سيكون المسمار الأخير في نعش النهج اليساري.. وهذا ليس طعناً بأحد، لكنها حقيقة يكفلها التاريخ..

وإذا كنا بصدد القراءة الموضوعية لما حدث، فقد يكون مناسباً بأن نتطرق أيضا لعوامل بقاء هذه القوى وصمودها رغم كل ما واجهته من سياسات قتل ممنهج لوجودها، فهي مازالت تحفظ لنفسها مكانا على الخارطة السياسية الفلسطينية لايمكن لأحد تجاهلها، واستطاعت وعلى مدى فترات زمنية متلاحقة بأن تقدم بعضا من النماذج المتميزة في إطار العمل الحزبي الفلسطيني والعربي، فقد استطاعت أبرز قوى اليسار بأن تقطع أشواطاً طويلة في تكريس نظام المؤسسة والقيادة الجماعية، واستطاعت بأن تعقد مؤتمراً عاما لها، كما استطاعت بأن تتجاوز غياب مؤسسيها بالرغم ما لذلك من تداعيات سلبية يتركها هذا الغياب عادة على حركات التحرر، واستطاعت بأن تنتخب أميناً عاماً لها ضمن أصول ديمقراطية تُحسب لهذا الفصيل، قد لا يكون هذا كافيا للخروج من المأزق والعودة الى الدور المطلوب من قوى كان لها دوراً ريادياً ومميزا في انطلاقة الثورة المعاصرة وحماية الهوية الفلسطينية، لكن وجودها ومحاولتها تجاوز مأزقها ليس إلا تعبيراً واضحاً لمدى جذرية وجودها على الساحة الفلسطينية، وعلى الرغم من أن تيار اليسار في مأزق، ولكنه موجود وفاعل، وامتلاكه لتجارب عميقة هو دافع للبناء عليها، وليس لهدمها..

وانطلاقا من أن إدراك الواقع هو بداية موفقة للخروج من أي مأزق، والاعتراف بالعوامل المعيقة هو قفزة للأمام، لذا فإن إدارة النقاش حول تهور اليسار الفلسطيني في تبنيه لنظريات لايمكن اسقاطها على الواقع والمجتمع، وبأن جوهر المأزق الذي يعيشه هذا التيار هو طرحه، هو عمليا ممارسة مهذبة للهروب من العوائق، والتنصل من المسؤولية وكأن هذا اليسار هو مجرد حالة طارئة على الواقع الفلسطيني والعربي وحصوله على مساحات التأييد الواسعة لنهجه الكفاحي على مدى سنوات نضاله الماضية كانت على في عالم آخر..

ومن هنا فإن توصيف العوائق الحقيقية هو البديل الموضوعي، فالاعتراف بأن مايعيق اليسار عن التقدم وخلق تيار ثالث في ظل حالة الانقسام التي يعيشها النضال الفلسطيني هو ضعف الامكانيات وشحها، وعدم قدرته على الاستقطاب والحشد في وجه قوى باتت تشكل وجوه السلطة في الضفة وغزة، وعلى الرغم من تأييد شرائح واسعة في المجتمع بعدالة ماتطالب به هذه القوى على مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية والمعيشية، إلا أن المواطن الفلسطيني مازال يبحث عن القوة التي تستطيع إقناعه بأنها قادرة على تغيير واقعه المعيشي وقيادته إلى حلمه الوطني..

فعدالة المطالب، وصدق الخطاب، والجرأة، والمصداقية.. كلها صور رائعة لأي حركة ثورية، لكنها لا تعني شيئاً أمام العجز عن التغيير..

لذا فإن طموحات اليسار الفلسطيني محكوم عليها بالفشل وسوف تبقى سجينة لاوراق البيانات في حال لم ترتبط بامكانيات مالية مقبولة تستطيع أن تضخ الدم في شرايين العمل التنظيمي اليومي، ليترجم إلى عمل ملموس على الأرض، تستطيع من خلاله إحياء كل محركات العمل السياسي والاجتماعي وتستطيع بان تقوم بدورها في المساهمة برفع الظلم المعيشي والحياتي اليومي الذي يتعرض له المواطن الفلسطيني على مدار الساعة وخارجها..

قد لا تكون الإشارة إلى أولوية الجانب المالي اختراعا للذرة، وأنا على ثقة بان قيادة وكوادر هذه القوى على ادراك كامل لاهمية هذا الجانب، لكن الغاية هنا في التنبيه حول حقيقة ان الفكر والايدولوجيا بغض النظر عن هويتهما وعمقهما.. فإن للعامل المالي الدور الأبرز في عملية الخروج من السطور إلى الواقع.. وليس العكس.

وإذا كان توفر المال هو شرط لازم وأولوية قصوى، فهذا لا يعفي اليسار من مسؤوليته الكبيرة حول دوره في الإجابة عن أسئلة كبيرة حول قضايا رئيسية تتعلق بالمجتمع المدني وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية دون إغفال وقوع هذا المجتمع تحت نار الاحتلال وما يمليه هذا من خصوصية في مراعاة الواقع، مع التنبيه ان ما يفصل بين المراعاة والانغماس حاجز رفيع جداً، وعلى قوى اليسار ان تؤكد على هويتها العلمانية دون أي تردد.. فمبدأ المراعاة هنا لاينطبق على الهوية الفكرية للأحزاب.. لانها في حال انطبقت فهي تتحول تلقائيا إلى ممارسة رسمية للدجل..

ولكن ماذا عن البرنامج السياسي لهذا التيار؟؟ فهل سيبقى متماهياً مع هو مطروح دائماً؟؟ وهل يكفي تكرار مفردات الرفض والتأكيد على الثوابت الوطنية لتشكيل إطار سياسي واضح؟؟ ألم يكن اليسار سباقاً في طرحه للدولة العلمانية لكل مواطنيها بشرط إسقاط الفكر الصهيوني؟؟ لماذا تخلى اليسار عن طرحه علناً وأبقاه داخل أدبياته الحزبية؟ ألم تعترف أوساط العدو الاسرائيلي علناً ان الهاجس المتعلق بهوية هذه الدولة بات يشكل خطرا حقيقياً يتهدد مستقبل الصهيونية، وأن التحولات السكانية على الأرض تسير لصالح هذا الطرح؟ ألا يُشكل حل الدولة العلمانية على كل أرض فلسطين حلاً وطنياً ينسجم مع كل الثوابت الوطنية؟؟ كما، ماذا تبقى من أراضي عام 67 في ظل ابتلاع الاستيطان لمعظم التراب الوطني، واجتياح الجدار للحياة في الضفة الغربية، وشطب الأغوار من أي تسوية، وتهويد القدس؟؟ وماذا عن أبناء فلسطين في الشتات؟ أليس ضربا من الجنون الحديث حتى هذه اللحظة عن دولة مستقلة؟ ألا تشكل كل هذه السرقات الاسرائيلية لحياة الفلسطينيين دافعاً لليسار الفلسطيني لكي يستنهض مطلبه التاريخي في قيام الدولة الديمقراطية على كل ارض فلسطين كهدف سياسي ثابت؟؟ فإذا كان هذا الطرح بحاجة إلى رحلة طويلة من النضال بعذاباته وآلامه، فهل ما يكابده الشعب الفلسطيني الآن ترفيهاً؟؟ أليس مايقدمه العدو الصهيوني حتى هذه اللحظة من تسويات للمفاوض الفلسطيني هو عبارة عن صيغ مطورة للحكم الذاتي؟

لذا وبناءاً على ما تقدم، قد تكون الفرصة مناسبة أمام اليسار الفلسطيني للخروج ببرنامج وطني متكامل يأخذ بعين الاعتبار ضرورة الانسجام بين الخطاب والممارسة، ويضع الهم المعيشي والاجتماعي للفلسطينيين في الداخل والخارج على سلم الأولويات..

فهل يشكل نجاح اليسار في تلمس الطريق للخروج من المأزق.. بداية لانتشال الوطن من مأزقه؟؟

التعليقات