31/10/2010 - 11:02

غزة../ إلياس سحّاب

غزة../  إلياس سحّاب
ما إن تشظّت فلسطين، أرضاً وشعباً، تحت ضغط الحادث المهول لإنشاء دولة "إسرائيل" فيها عنوة واغتصاباً في العام1948 حتى اندفعت جموع الفلسطينيين المرحّلين قسراً عن وطنهم، كل مجموعة باتجاه القطر العربي الأقرب إلى موقعها الأصلي في الوطن الأم (أي باتجاه لبنان وسوريا والأردن بشكل خاص).

غير أن مجموعات غير قليلة من سكان المواقع الوسطى الغربية، اختارت نمطاً من الهجرة الداخلية، إلى مناطق فلسطين الشرقية (الضفة الغربية لنهر الأردن) وغزة (المتاخمة للحدود المصرية)، ربما في تكرار لسيناريو الهجرة الداخلية إلى المواقع نفسها في خلال الحرب العالمية الأولى في مطلع القرن العشرين، عندما كانت السفن الحربية للدول المعادية للامبراطورية العثمانية، تقصف مدن الساحل الفلسطيني.

وما لبثت منطقة غزة، التي حملت فوراً لقب "قطاع غزة" تعبيراً عن مدينة غزة، والبلدات الصغرى والقرى المحيطة بها (مثل رفح وخان يونس)، أن وضعت عهدة مؤتمنة في كنف الإدارة المصرية، بانتظار الحل النهائي الذي لم يأت بعد، رغم مرور ستة عقود على نكبة 1948.

والحقيقة أن غزة وقطاعها كانا، شأنهما شأن المواقع الحدودية في كل بقاع الدنيا، يخضعان لمؤثرات جوارهما المصري من قبل الدخول في عهدة الإدارة المصرية المؤقتة، وكان ذلك، وما زال، ينعكس على لهجة أهلها الفلسطينية الجنوبية المطعمة بلكنة مصرية محببة، وعلى مزاج أهلها في أصناف الطعام التي كثيراً ما تعتمد المطيبات الحارة.

لكن قطاع غزة عرف بعد النكبة ثلاث مراحل متميزة، الأوليان منها مع الإدارة المصرية، والثالثة في كنف السلطة الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو، تخللها وفصل بينها دائماً، كقاسم مشترك، الاحتلال "الإسرائيلي"، الذي كانت غزة دائماً (وما زالت) عصية عليه وشوكة في حلقه، رغم كثافة الحصار والقمع ووحشيته، حتى إن إسحق رابين، كانت له عبارة شهيرة وهو رئيس لوزراء "إسرائيل" يقول فيها إنه يتمنى لو يصحو من نومه ذات يوم فيجد غزة قد غرقت في البحر، وإن ارييل شارون، كما كشفت الصحافة "الإسرائيلية" أخيراً، كان قبيل دخوله في غيبوبته الراهنة، يرى كابوساً يومياً في منامه، يجد فيه نفسه أسيراً في غزة يدور في شوارعها عارياً مكبلاً بالأصفاد.

لا شك أن أزهى المراحل التي عرفها قطاع غزة كانت الثانية، عندما اضطرت "إسرائيل" للجلاء عنها وإعادتها للإدارة المصرية بعد احتلال قصير خلال معركة السويس 1956/،1957 وقد استمرت هذه الفترة عشر سنوات كاملة حتى عدوان ،1967 كانت السنوات الذهبية التي حصّل فيها كل أبناء غزة علومهم الجامعية العليا في جامعات القاهرة مجاناً (كالمصريين تماماً)، في ظل صعود المرحلة القومية الناصرية، وكان من بين هؤلاء الطلاب ياسر عرفات.

كان من المتوقع في عقد التسعينيات من القرن العشرين، ان يدخل قطاع غزة أزهى مراحله الذهبية عتبة للعودة إلى كنف الوطن بإنشاء جسر (على الأقل) أو طريق بري ضيق، بينه وبين الضفة الغربية، تمهيداً لقيام دولة فلسطين الموعودة، غير أن القطاع خضع بعد فترة هدوء نسبي قصيرة، لأكثر جرائم الحرب وحشية، مثل جريمة إلقاء قنبلة وزنها طن، على منزل آهل بالسكان المدنيين، بينهم عدد كبير من الأطفال، بغرض اغتيال مسؤول واحد في المقاومة الفلسطينية. وذلك إضافة إلى تعطيل المطار والمرفأ، وإغلاق الحدود الدولية مع مصر، والسيطرة عليها من خلال معبر ظلت السلطة العليا فيه ل"إسرائيل"، وإحاطة القطاع من كل جوانبه، بحواجز الذل التي اصبحت القاسم المشترك الاعظم في حياة اهل القطاع اليومية.

ولم يكد القطاع يتعرض مؤخراً إلى ذروة مأساته الوطنية بانشطار الوطن الفلسطيني المجزأ أصلاً، إلى شطرين في غزة وما تبقى من الضفة الغربية، حتى بدت أمامنا ملامح مرحلة جديدة من الواضح أن المقصود بها، "إسرائيلياً" وأمريكياً، أن تكون مقدمة لتصفية المقاومة من جذورها، تمهيداً لتصفية القضية والوطن والحقوق التاريخية، بعد تجريدها من كل أوراق القوة.

يتم ذلك بهدوء شديد، وتتولى "إسرائيل" إنجاز الجانب العسكري لأمر العمليات السياسي الأمريكي، بوحشية حصدت في يوم واحد (يوم كتابة هذه السطور) خمسة عشر فلسطينيا، بينهم الابن الثاني لقيادي بارز في حماس هو محمود الزهار، بعد أن قتل ابنه الأول في محاولة لاغتياله قبل أربع سنوات.

لا يكفي قطاع غزة ان يبتلى بكونه أكثر بقاع الكرة الأرضية كثافة سكانية، مما يضعه في حالة من العوز المادي القياسي، ويضع أكثر من نصف سكانه تحت خط الفقر، ولا يكفيه أن يتعرض سكانه لأبشع عملية إهدار للكرامة الإنسانية، يوميا، ومنذ سنوات طوال، بل يتحول اليوم إلى هدف عسكري مباشر لتصفية المقاومة الفلسطينية والقضية بأعلى درجة من الوحشية، تحت الأنظار الهادئة والمسترخية تماماً للمجتمع الدولي بكل شرائحه، وللدول العربية، مغربها ومشرقها، بل للسلطة الفلسطينية نفسها، التي لا أدري من تريد إقناعه بموقفها، عندما تصدر بياناً يستنكر اليوم العسكري الدامي بعبارات قوية، ثم يحتفظ بعضوية كاملة في المفاوضات السياسية، مع المسؤولين عن كل ما يجري في غزة؟

يخيل إليّ في هذه الأيام، ورغم كل ما تعرضت له كل أجزاء فلسطين من مجازر وأهوال منذ العام ،1948 وفي مراحل مختلفة حتى اليوم، أن غزة هي البقعة الفلسطينية التي اختارها القدر لتكون أكثر أجزاء فلسطين تحملاً لأثقال القضية كلها (نيابة عن كل فلسطين وكل العرب) في مرحلة محاولة القيام بعملية تصفية جدية وحاسمة للقضية وللأرض وللحقوق وللبشر، في لحظة من أقسى لحظات الانحطاط العربي والفلسطيني في العقود الأخيرة.
"الخليج"

التعليقات