31/10/2010 - 11:02

فتح ومؤتمرها السادس.. ملاحظات نقدية../ ماجد كيالي

فتح ومؤتمرها السادس.. ملاحظات نقدية../ ماجد كيالي
شهدت حركة فتح، خلال السنوات الماضية، انحسارا كبيرا في مكانتها التمثيلية في المجتمع الفلسطيني، وتدهورا في دورها القيادي في العمل الوطني، وافتقادا لهويتها السياسية، وذلك بعد أن تبددت طاقتها النضالية، وبسبب تغيّر طابعها من حركة تحرر وطني إلى سلطة (في ظل الاحتلال) وبحكم معاناتها إرهاصات الشيخوخة، بمعنييها المادي والمعنوي.

وفي واقع كهذا فإن تجديد طاقة فتح النضالية، وتطوير بناها، وتجديد أفكارها السياسية، وتمكينها من استعادة حيويتها وعافيتها، لا يقتصر على مجرد عقد مؤتمر (لاسيما بالشكل الذي عقد فيه) وإنما هو يحتاج إلى أكثر من مؤتمر، وإلى عملية مراجعة مستمرة لتجربتها وتاريخها.

كما يتطلب ذلك توفر إرادة جماعية، وإشاعة نوع من ثقافة سياسية نقدية لدى قيادة الحركة وكادراتها، كما يحتاج إلى خلق الإطارات والقنوات اللازمة لتفاعل مجموع بني الحركة في هذه الاتجاهات. وكما هو معلوم فإن هذه المستلزمات لم تتوفّر بالمستوى المناسب قبل توجه الحركة لعقد مؤتمرها السادس في بيت لحم مؤخّرا.

الآن، ومع تأكيدنا أهمية هذا المؤتمر، باعتباره محطة تاريخية ستحدد مسار حركة فتح في المستقبل (بغض النظر عن رأينا بهذا المسار) فثمة ملاحظات جوهرية يمكن طرحها في هذا المجال، هي على النحو التالي:

أولا، لم يتم التحضير لهذا المؤتمر بشكل جيد، وظهر على شكل مهرجان (بعديده وبشكل النقاشات فيه) وحتى أن الغالبية من الأعضاء لم يتمكنوا من الاطلاع على الوثائق المطروحة بشكل مسبق، وجاء التقرير السياسي الذي ألقاه القائد العام للحركة (أبو مازن) ملتبسا وانتقائيا ما صعّب على الحاضرين مناقشته. وفي الواقع فإن قيادة فتح (التي كانت شكلت لجنة تحضيرية لهذا المؤتمر قبل أربعة أعوام) لم تعمد خلال تلك الفترة إلى إطلاق نقاش داخلي عام، في كل مواقع وإطارات الحركة، بشأن مراجعة التجربة الماضية، وإطلاق سؤال أين كانت فتح؟ وأين أصبحت؟ وكيف السبيل إلى تطويرها؟

أيضا، فإن هذه القيادة لم تعمد إلى إطلاق نقاش في كل مواقع وبنى الحركة حول الخيارات السياسية التي ينبغي أن تتبناها فتح، على ضوء إخفاق الخيارات السابقة من خيار الكفاح المسلح إلى خيار التسوية والمفاوضة وصولا إلى خيار الانتفاضة والمقاومة، ومن خيار المنظمة إلى خيار السلطة، ومن خيار التحرير ثم الدولة الديمقراطية الواحدة إلى خيار الدولة في الضفة والقطاع. كما لم يتم فتح النقاش حول كيفية تطوير هيكلية فتح، وإضفاء نوع من الحياة الداخلية عليها.

كذلك فإن هذه القيادة لم تضع نفسها في موقع التساؤل والمحاسبة بشأن طريقة إدارتها لفتح وللسلطة والمنظمة، وهي إدارة تسببت بالفوضى والتسيب وتضييع المنظمة، وانحسار مكانة فتح في المجتمع الفلسطيني، ووصمها بشبهة الفساد (السياسي والمالي) واستخدام النفوذ السلطوي، مما أدى إلى خسارتها الانتخابات التشريعية (2006) وخسارتها قطاع غزة (2007) لصالح حركة حماس.

هكذا فإن كل هذه الأسئلة لم تطرح على النقاش الحركي العام كي يحمل خلاصاتها ودروسها واستنتاجاتها الأعضاء، الذين تمت تسميتهم للمشاركة في المؤتمر العام السادس، لمناقشتها واتخاذ القرارات والتوجهات المناسبة بشأنها.

ثانيا، إن المقدمة سالفة الذكر تحيلنا على سؤال العضوية في المؤتمر، حيث ليس ثمة معايير واضحة للعضوية، فثمة 90% من أعضاء المؤتمر تتحمل اللجنة المركزية، أو الأعضاء النافذين فيها، مسؤولية تسميتهم (مباشرة أو مداورة) وفقط ثمة حوالي 10% يأتون من قطاع التنظيم (الذي هو جهاز كباقي الأجهزة) بالنظر إلى أن فتح ليست تنظيما هرميا بمعنى الكلمة.

وبشكل أكثر تفصيلا فإن الأعضاء الفاعلين في فتح هم المتفرّغون (أي المشتغلون) في أجهزتها المختلفة، والمنتدبون منها إلى أجهزة السلطة والمنظمة، وهؤلاء ليس لهم حياة تنظيمية معينة، ولا يخضعون لتراتبية تنظيمية، بمعنى أن القرب من القيادة هو الذي يحسم مكانة كل شخص في هذا الموقع أو ذاك. أما التنظيم فهو يقتصر على الأعضاء المنتسبين لفتح في مناطق معينة، من دون أن يعني ذلك أن هؤلاء ينتظمون في حياة داخلية سليمة؛ فحركة فتح لا يوجد فيها هكذا حياة، ولايوجد فيها حراك تنظيمي بمعنى الكلمة، بحكم سيطرة القيادة على هيكلية فتح.

ولعل هذا يفسر عدم تأثّر انعقاد المؤتمر السادس بمنع حماس لأعضاء مؤتمر فتح من قطاع غزة بالحضور إلى بيت لحم. وفي الواقع فإن هؤلاء ليسوا وحدهم من لم يحضر المؤتمر، فثمة عشرات ومئات الكادرات المناضلة والمجربة في حركة فتح في الداخل ومناطق اللجوء والشتات لم تسمّ في المؤتمر بسبب عدم احتسابها ضمن كوتا معينة (لصالح هذا العضو في اللجنة المركزية أو غيره).

كما أن غالبية هؤلاء ليس لهم هيكلية تنظيمية بواقع التسيب واللامبالاة وأيضا بواقع استناد قيادة الحركة إلى المتفرغين والمقربين. وتدلل وقائع المؤتمر السادس إلى أن عضوية هذا المؤتمر تحكمت فيها كوتا اللجنة المركزية لفتح وبعض المتنفّذين من خارجها، الذين فرضوا معادلات المؤتمر وتوازناته. هكذا كان الحديث يجري عن مؤتمر تعداد أعضاؤه حوالي 700 ثم رفع العدد حتى وصل إلى 1250، ثم قامت اللجنة المركزية وقبيل انعقاد المؤتمر بإضافة 700 عضو آخر ليرتفع العدد إلى أكثر من ألفي عضو! من دون أن يسأل أحد كيف حصل ذلك وبأية معايير ولماذا حصل؟!

ثالثا، بدا من مجريات المؤتمر أن حركة فتح فقدت طابعها كحركة سياسية تعددية، تحتوي منابر متنوعة، وهذا ما يضعف فتح، لأن هذه الحركة كانت تستمد روحها وميزتها من كونها حاضنة لمختلف التيارات السياسية في الشعب الفلسطيني.

وفي الواقع فإن فتح تحولت إلى حركة اللون الواحد، أو التيار الواحد، نتيجة عوامل متعددة ضمنها الانشقاق الحاصل في العام 1983، وتحولها إلى سلطة بعد عقد اتفاق أوسلو (1993) وعدم انتظام حياتها الداخلية في علاقات ديمقراطية تتيح التعايش بين تياراتها، وغياب الثقافة السياسية التعددية في صفوف إطاراتها الأدنى.

على ذلك فإن انعقاد المؤتمر السادس، بدون استيعاب باقي تيارات فتح وتلاوينها، وبهذه الطريقة الارتجالية والمزاجية، ومن دون تمهيدات مسبقة، سيسهم في تبهيت روح فتح وينهي تميزها كحركة تحرر وطني، تتلاقى فيها مختلف تيارات الشعب الفلسطيني.

في مقابل ذلك فقد بدا واضحا أن الخلافات والتمايزات في المؤتمر لم تتركز على مضامين وقضايا سياسية وفكرية وإنما هي انصبّت على قضايا تنظيمية، أو على قضايا مسلكية، وهي على أهميتها وضرورتها، إنما تعكس أيضا، غلبة ذهنية الصراع على السلطة والمواقع والنفوذ بين أبناء حركة فتح. وهذا الواقع يعني فيما يعنيه تكريس وضع حركة فتح كحركة سلطة على حساب طابعها كحركة تحرر وطني، كما يعني ذلك تفسّخ هذه الحركة، وهبوط قيمتها.

رابعا، ثمة واقع من صراع أجيال في حركة فتح، كما ثمة واقع من صراع مناطقي فيها، إضافة للصراع بين الداخل والخارج. وفي الحقيقة فإن هذا وذاك هو نتاج غياب الحراك الداخلي وعدم وجود حياة داخلية منتظمة في حركة فتح، ومصادرة عملية المشاركة في القرارات، وتغييب المؤتمرات.

بمعنى آخر فإن انتظام الحياة الداخلية ووجود نوع من الحراك السياسي وانعقاد المؤتمر العام في موعده كان من شأنه توفير حياة سليمة في الحركة، وخلق الفرص أمام الكادرات للصعود في سلم القيادة، مما يسد الأبواب أمام الصراعات غير المجدية، والتي لا معنى سياسي لها، من نوع صراع الأجيال أو صراع المناطق، أو صراع الداخل والخارج.

وفي كل الأحوال فإن اللجنة المركزية هي من تتحمل مسؤولية إذكاء هكذا صراعات لأنها تساعدها على ترسيخ مكانتها وتجعلها حكما بين مختلف الجماعات المتصارعة، وهذا بالضبط ما استطاعته اللجنة المركزية بنجاح في المؤتمر السادس، حيث باتت وكأنها مركز المعادلات والتوازنات فيه، على حساب مراكز القوى الأخرى، التي وجدت نفسها مهمشة وضعيفة وضائعة، لاسيما بعد إضافة 700 عضو فجأة ودفعة واحدة إلى عضوية المؤتمر. وعليه فقد بدت اللجنة المركزية، أو جماعة الكهول، في المؤتمر في موقع المنقذ للحركة أكثر من كونها في موقع المساءلة والمحاسبة عن الوضع الذي آلت إليه الحركة والساحة الفلسطينية.

خامسا، يبدو أن قيادة فتح مصرة على الاستمرار بنهجها في الاستخفاف بعقول الآخرين ومصادرة رأيهم، عبر التلاعب بالكلمات، وحجب الحقائق، والاستمرار بنهج "قل ما تشاء وأنا افعل ما أشاء"! هكذا فإن البرنامج السياسي، كما التقرير المقدم للمؤتمر من قبل الرئيس أبو مازن، تحدثا من الناحية السياسية عن كل شيء ولم يقولا شيئا محددا في الوقت ذاته، بمعنى أنهما تحدثا في عموميات السياسة والتمسك بالمواقف والحقوق ولكنهما تملصا من تحديد مواقف سياسية معينة تفيد في تحديد هوية فتح كحركة تحرر وطني؛ وبدا أبو مازن وكأنه يتحدث كرئيس للسلطة، أكثر من كونه قائد حركة وطنية.

ففي كلمته تحدث أبو مازن عن المقاومة ولكنه ربط ذلك بالشرعية الدولية، وليس بحق الشعب بمقاومة الاحتلال، وتحدث عن التمسك بحق العودة في حين أن الساذج يدرك بأن المفاوضات لا تأتي بحق العودة، وأن هذه المفاوضات، وفي هذه الظروف، بالكاد تأتي بدولة في الضفة والقطاع (ومنقوصة السيادة) فما هي عناصر القوة التفاوضية التي يملكها أبو مازن وحركته وسلطته في مواجهة إسرائيل؟

والقصد من ذلك ليس المزايدة وإنما المطالبة بتوضيح الحقائق والمواقف، وعدم التعمية على كوادر فتح وعلى عموم الفلسطينيين. وكان الأفضل لو أن أبو مازن تحدث بلغة واضحة وغير ملتبسة أو متناقضة.

وإذا كان خيار الكفاح المسلح لم يعد مجديا فينبغي قول ذلك بوضوح لمناقشة هذه المسألة والحسم بها بدل ترك الأمر للتكهنات. أيضا إذا كانت التسوية لا تجلب الدولة وحق العودة في آن معا فيجب توضيح ذلك للجمهور ولكوادر فتح، بدل إشاعة الأوهام وترويج المراهنات الخاسرة، التي تفضي إلى مزيد من الإحباط والفوضى.

سادسا، ثمة إشكالية لم تجر مناقشتها بشكل واضح في المؤتمر، وهي تحديد هوية فتح، فهل ستبقى في مربع التحرر الوطني، ومصارعة الاحتلال وكيف؟ أم هل ستحسم فتح أمرها وتتماهى مع السلطة، وتصبح بمثابة حزب للسلطة؟ ولا شك أن متطلبات التحرر الوطني تتطلب إعادة بناء حركة فتح على هذا الأساس بإطاراتها وعلاقاتها الداخلية وخطاباتها ووسائلها الكفاحية.

أما في حال أن فتح حسمت خيارها بالتحول إلى حزب للسلطة، فإن هذا يجعل من فتح حركة من نوع آخر، وهذا له استحقاقاته في طبيعة بنية فتح وخطاباتها وأشكال عملها أيضا. فلكل مسألة استحقاقاتها ومتطلباتها وطرقها. وفي أية حال فإذا كانت فتح تتحول لتصبح مجرد حزب للسلطة، وتتخلى عن طابعها كحركة تحرر وطني، لشعب يخضع للاحتلال، فإن السؤال المهم الذي يطرح نفسه هو كيف ستوائم فتح نفسها في هذا الاتجاه في واقع ليس ثمة إقليم تفرض سيادتها عليه، وشعبها يخضع لسيطرة الاحتلال؟ فهل يعني ذلك أن فتح ستبني سلطتها بالتفاهم مع الاحتلال؟ وهل ستغلب علاقاتها مع الاحتلال على علاقاتها مع شعبها وقواه الوطنية؟ وما موقفها حينذاك من فصائل العمل الوطني الأخرى؟ وما هي تأثيرات ذلك على مكانة منظمة التحرير هل سيجري إنهاؤها؟ وما تأثير ذلك على وحدة الشعب الفلسطيني، وعلى العلاقة النضالية بين الداخل والخارج؟

من كل ذلك لم يعد ينفع، بالنسبة لفتح، الاستمرار بسياسة التورية واللعب بالشعارات وحجب الحقائق، فهذه الحركة حتى تستعيد مكانتها الريادية عليها أن لا تتكئ فقط على تاريخها، فقط، وإنما عليها أن تقوم بمراجعة نقدية مسؤولة لتجربتها، ونبذ الفردية واحتكار القرارات، وتعزيز العلاقات الديمقراطية والمشاركة السياسية في صفوفها وفي إطار العمل الفلسطيني، وصيانة روح التنوع والتعددية والثقافة الوطنية النقدية فيها. وأساسا عليها أن توطّّد نفسها كحركة تحرر وطني، في مواجهة مشروع استعماري استيطاني إحلالي وعنصري، بكل ما يترتب على ذلك في بنائها لذاتها وخطاباتها وطرق عملها، وعلى أسس نضالية وعقلانية في آن معا.

ويخشى أن واقع فتح، وإصرار قيادتها على الاستمرار بنفس طريقة العمل السابقة (كما بدا من وقائع المؤتمر والتحضير له) سيأخذها إلى طريق آخر. ومعنى ذلك أن المؤتمر السادس لن يجدّد فتح (بمعنى إعادة البناء والتطوير) وإنما سيؤسّس لفتح جديدة مغايرة في بناها وخطاباتها وأهدافها، على الأرجح.

وكما هو معلوم، وبغض النظر عن التصريحات الاستهلاكية، فإن قيادة هذه الحركة وطّدت نفسها منذ زمن على التحول من مربع النضال من أجل التحرر الوطني والصراع ضد إسرائيل، إلى مربع النضال من أجل تكريس دورها كسلطة وكحركة سياسية، تعتمد أسلوب التفاوض والتفاهم مع إسرائيل على مستقبل الأراضي المحتلة (عام 1967) وعلى مستقبل الشعب الفلسطيني في هذه الأراضي. وعلى كل فإن هذا التحول ستؤكده أو تنفيه الأيام القادمة.

التعليقات