31/10/2010 - 11:02

فلسطين تعيش المرحلة الوسطى../ ماجد عزام*

فلسطين تعيش المرحلة الوسطى../ ماجد عزام*
تبدو فلسطين هذا العام وكأنّها تعيش المرحلة الوسطى. فبعدما منع الشعب الفلسطيني بصمود أسطوري وهائل إسرائيل والمشروع الصهيوني من تحقيق الانتصار بات هو الآن في انتظار تحقيق الانتصار النهائي والحاسم، الأمر الذي يستلزم بالتأكيد أداءً مختلفًا فلسطينيا وعربيا وربما دوليا أيضا.

تضمّنت الأدبيات الصهيونية الكلاسيكية تلك العبارة الشهيرة "فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" وهي التي مثلت الأرضية لتساؤل غولدا مئير "أين هو الشعب الفلسطيني؟". ردّت الثورة الفلسطينية المعاصرة بعنفوان وإباء على ذلك التساؤل العنصري والمتغطرس، ونجحت منظمة التحرير الفلسطينية كإحدى أهم تجليات وإبداع وصمود الشعب الفلسطيني في مواجهة المشروع الصهيوني، نجحت في تحويل القضية الفلسطينية من قضية لاجئين ذات بعد إنساني إلى قضية سياسية بامتياز ذات بعد وطني وقومي تعبّر عن سعي شعب بأكمله إلى الحرية وتقرير المصير.

وهي أي المنظمة نجحت أيضا عبر تضحيات جسام في وضع القضية على رأس جدول الأعمال العالمي، فباتت بفعل العناد الفلسطيني والذاكرة العصية على النسيان- ومنظمة التحرير أيضا- معيارًا للسلم والاستقرار الدوليين، علما أن المشروع الصهيوني لحظ أو تمنّى بالأحرى أن يموت الجيل الأول من اللاجئين وتنسى الأجيال الثانية وتذوب في محيطها، بينما يتحول لاجئو ومواطنو الداخل إلى أيد عاملة رخيصة للاقتصاد الصهيوني، وفى أسوأ الأحوال إلى مواطنين من الدرجة الثانية والثالثة، وهو ما لم يتحقق أيضا نتيجة عناد الشعب، كذلك نتيجة نضال وأداء المنظمة التي تحوّلت وطنا معنويا وإطارا مرجعيا أعلى لإدارة الصراع مع إسرائيل وعدم الاستسلام أمامها.

حتى عندما ذهبت "منظمة التحرير" إلى عملية التسوية وشاركت بمواربة في مؤتمر مدريد، ثم وقّعت على اتفاق أوسلو وتخلت عن الروح مقابل الإطار أو الجسد وفق التعبير الشهير للشهيد فتحي الشقاقي لم تستسلم أو بالأحرى لم يستسلم الشهيد أبو عمار على طاولة التفاوض، ورغم حدّة النقد وحتى التخوين والتكفير الدينى والسياسي الذي تعرض له فإنّ أبا عمار رفض التوقيع على وثيقة الاستسلام، وعندما اتضح له أن ما تسعى إليه إسرائيل هو فرض الحكم الذاتي البلدي الموسّع تحت إطار برّاق ولامع للدولة دون القدس ودون حق العودة - استنساخ محدث للمنظومة اللحدية- آثر أبو عمار الاستشهاد على الاستسلام حارما إسرائيل من أن تحقق على طاولة التفاوض ما عجزت عن تحقيقه في الميدان، أي فرض الهزيمة على الشعب الفلسطيني وتحويله إلى أيد عاملة رخيصة في الداخل، وجسر للتطبيع والانفتاح على كل العواصم في الخارج.

يجب الانتباه إلى أن إسرائيل لجأت أساسا إلى الطاولة والأساليب الناعمة والدبلوماسية لفرض الهزيمة والاستسلام على الشعب الفلسطيني بعدما عجزت عن تحقيق ذلك في الميدان عبر الاجتياح الأحمق للبنان في العام 1982 بغرض توجيه ضربة قاصمة لمنظمة التحرير وإخراجها- ومعها الشعب الفلسطيني- من معادلة الصراع، الأمر الذي ردّ عليه الشعب الأسطورة بانتفاضة الحجارة التي أجبرت القادة العسكريين الإسرائيليين لأول مرة على الفهم أن ليس من حلّ عسكري للصراع، وأنه لا يمكن إنهاء الآمال والطموحات الوطنية للفلسطينيين عبر الوسائل العسكرية، وهي أي الانتفاضة أجبرت أيضا تيارا واسعا من القادة السياسيين الإسرائيليين على التفكير في حل تفاوضي للصراع.

قال رابين لأحد أصدقائه مطلع التسعينيات من القرن الماضي إن ما دفعه في الحقيقة إلى توقيع اتفاق أوسلو والاعتراف بمنظمة التحرير ولو كإطار فقط هو معرفته الدقيقة بأحوال وأوضاع الجيش الإسرائيلي واستحالة تحقيقه الانتصار في أي حرب أو مواجهة أخرى مع الفلسطينيين والعرب. ممانعة اليمين الإسرائيلي أو القسم الأعظم منه لتلك الحقيقة انهارت أمام انتفاضة الأقصى التي فشل ارئيل شارون في إنهائها خلال مئة يوم ما دفعه إلى اللجوء لخطة فك الارتباط أو الانفصال الأحادي عن الفلسطينيين، والتي حملت في طياتها الحقيقة الساطعة إسرائيل عاجزة عن فرض الهزيمة والاستسلام على الفلسطينيين، سواء كان ذلك في الميدان أو على طاولة التفاوض.

حرب غزة الأخيرة أكدت وكرست بدورها الحقائق السابقة: إسرائيل لا تستطيع تحقيق الانتصار العسكري على الفلسطينيين، علما أن الحرب نفسها وما تخللها من مجازر وفظائع مثلت تعبيرا عنيفا ودمويا عن استحالة تحقيق السلام مع الفلسطينيين عبر التفاوض أو فرض الهزيمة عليهم بالأساليب الناعمة، كما أن الحرب، وفي أحد أبعادها الأيديولوجية أيضا أظهرت انهيار المفهوم الأحادي وفك الارتباط بمعناه الشاروني، بحيث أنّ أيّ انسحاب آخر لن يكون سوى نوع من الهروب والإقرار بفشل المشروع الصهيوني برمته في مواجهة الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني.

إذن نجحنا في منع إسرائيل من تحقيق الانتصار وفي تقويض الأسس المركزية للمشروع الصهيوني، ولكن لكي نحقق نحن الانتصار بمعنى إحقاق كافة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، فهذا أمر آخر، ويحتاج إلى أداء فلسطيني وعربي مختلف.

فعلى المستوى الفلسطيني لا يمكن نظريا تحقيق ذلك في ظل هذا الانقسام السياسي والجغرافي المؤسف والمحزن، كما في غياب المرجعية العليا أي منظمة التحرير روحا وجسدا من أجل صهر طاقات الفلسطينيين في الخارج والداخل لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني. كما لا يمكن ذلك دون حسم أسئلة جد مهمة وصعبة ليس فقط عن ثنائية المقاومة والمفاوضات، وإنما أيضا عن ثنائية المقاومة والسلطة وصوابية النزاع أو الاستغراق في الخلافات السلطوية والهامشية، بينما الهدف الاستراتيجي الأهم لم يتحقق، وكما دائما اعتقد أن أداءً فلسطينيا مختلفًا سيؤدي حتما إلى أداء عربي مختلف. وبدون إزالة أو التخلص من الأنظمة المتعفنة والمترهلة والمستبدة الفاقدة للشرعية كما جرى بعد النكبة الأولى ولكن سلميا وديموقراطيا هذه المرة وهي سيرورة طويلة وصعبة، ولكنّها حتمية وضرورية بمعنى تمكين الشعب العربي من فرض إرادته على حكامه وإعادة الاعتبار إلى مركزية القضية الفلسطينية، ليس فقط من أجل مساعدة الفلسطينيين على ما لذلك من أهمية وإنما مساعدة الدول العربية نفسها للتخلص من التبعية والهيمنة الخارجية والاستقلال بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهي أمور لا يمكن تحقيقها بدون هزيمة الصهيونية، وهي هدف ليس مستحيلا بعدما نجحت المقاومة الفلسطينية في تحجيمه ومحاصرته ومنعه من تحقيق الانتصار كخطوة ضرورية وملحة ولا بد منها في سبيل إحقاق كافة حقوق شعبنا الفلسطيني.

التعليقات