31/10/2010 - 11:02

في الذكرى الثالثة للعدوان على العراق/ د.يوسف مكي

في الذكرى الثالثة للعدوان على العراق/ د.يوسف مكي
أحد المظاهر السلوكية في سيرورة الإمبراطوريات الكبرى، قديمها وحديثها أنها لا تتعلم من دروس التاريخ، وأنها تمارس ذات النهج الذي ثبت فشله مرات ومرات عبر مسيرة الإنسانية الطويلة.

إن ثمة جاذبية... مغناطيساً خاصاً يدفع بها إلى تكرار أخطائها بشكل ميكانيكي، وهذه الجاذبية، هذا المغناطيس له سحر خاص، يحجب عن هذه الإمبراطوريات القدرة على الرؤية والقراءة ، وبالتالي التنبؤ بشكل صحيح باحتمالات المستقبل. إن الجغرافيا بالنسبة لها هي مجرد ثروات وغنائم.. قطن وتوابل وحديد وفحم وكروم ومطاط ويورانيوم ونفط، وأيضا مواقع استراتيجية، أنهار وبحار وممرات ومضائق. تصاب القوى الطامعة بسبب جشعها وعنجهيتها وغرورها بعمى يحجب عنها القدرة على التفكير بوجود السكان المحليين، فهم بالنسبة لها ليسوا سوى قطيع مسالم، ليس له حول أو قوة، ومن ثم فلا حاجة للاستغراق في التفكير أو حتى التنبؤ بردود أفعالهم.

وكانت نواميس الكون، وما يجري على الأرض تدحض عمليا تلك الأوهام. وقد سجلها التاريخ في قانون قطعي أن الشعب المحتل، لا يقبل بأن تدنس أراضيه ويعتدى على عرضه وكرامته، وأنه يمتشق السلاح دون تردد دفاعا عن وجوده.. سجلها التاريخ مرات ومرات موضحا كيف تواجه غطرسة القوة بمقاومة الشعب الأعزل. مرات ومرات أيضا، دفع القادة والمخططون للغزو حياتهم ثمنا لأوهامهم. وليس صدفة أن يموت الإسكندر المقدوني فوق تراب الرافدين في طريقه لغزو الشرق، كما لم يكن صدفة أن يدفع عدد من سلاطين آل عثمان حياتهم، في عمليات غزو أو سطو، لا فرق، لبلدان أخرى.

كما لم تكن صدفة أن تنهزم قوات نابليون على الجبهة الروسية، وأن تنتهي حياة موسليني، معلقا فوق المشنقة، وأن يواجه الزعيم النازي هتلر مصرعه بالانتحار، بعد أن تمكنت جيوش البلدان التي اجتاحت قواته أرضها، من الارتداد عليه وإلحاق الهزيمة بقواته وإنهاء نظامه.

بهذا النمط من التفكير، بدت الأمور وردية وجميلة على المخطط الأمريكي، وهو يقوم بتجهيزاته للعدوان على العراق، واحتلاله والسطو على ثرواته. لم ير وزير الدفاع الأمريكي، دونالد رامسفيلد حاجة لأكثر من ثلاثين ألف جندي لاحتلال العراق.. قال، حسبما تسجله محاضر التسجيل لجلسات التحضير للعدوان مع كبار القادة العسكريين: إن وسائل الحرب التقليدية قد فات أوانها، وإن للقوات الأمريكية قدرات خارقة على كشف كل شيء يتحرك على الأرض، وفي قاع البحار. وإن أشعة الليزر قادرة على رصد القطاعات العسكرية التي تتحرك في الظلام وتوجيه أسلحتها في غضون ثوان عليها، ولذلك فلا حاجة لعدد كبير من الجنود في عملية احتلال العراق. إن الثلاثين ألفاً الذين سيتم إرسالهم من الجنود الأمريكيين لن يكونوا هناك للقتال، ولكن للحفاظ على الأمن وتنظيم حركة الشوارع في الأيام الأولى للسطو، ولم يكن رامسفيلد في ذلك بعيدا عن تنظير جولدا مائير، وهي تشير إلى فلسطين باعتبارها "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

تصور رامسفيلد وتشيني وبوش وكونداليزا رايس أن الشعب العراقي سيخرج مستقبلا لهم استقبال المحررين والأبطال. وحين دخلوا بغداد، دون حرب تذكر، وفقا لاستراتيجية المقاومة وتحسباتها للمرحلة اللاحقة، حسبوه خيرا، وعللوا أنفسهم بمرحلة من الاستقرار، تمكنهم من ترتيب أوراقهم كاملة في بلد الرشيد، لينطلقوا بعدها لاستكمال استراتيجيتهم في بقية المنطقة، على الأسس التي وردت في مشروع "الاستراتيجية الكبرى" الصادرة عن مؤسسة راند.

وكانوا حريصين منذ البدء، على أن يكون واضحا بالنسبة لنا شكل وطبيعة المرحلة القادمة، للنظام الذي يريدون تعميمه في المنطقة. نظام تفتيت يقوم على أساس تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم، على دعائم دينية وإثنية وطائفية. ولكي يتحقق هذا المشروع، كان لابد من "الفوضى الخلاقة" وهو تعبير شاع مع بداية الاحتلال على لسان رامسفيلد وكونداليزا رايس، وطرب له الرئيس بوش نفسه، وأعاد تكراره في خطاباته. قال رامسفيلد بوضوح بعد هجوم الغوغاء، بتشجيع من قوات الاحتلال، على الجامعات والمتاحف، والمختبرات العلمية والمصانع، ومقرات أجهزة الدولة، باستثناء وزارة النفط طبعا، إن الشعب العراقي لم يتعود على ممارسة الحرية، وإنه عاش لثلاثة عقود تحت حكم شمولي، وإنه الآن بعمليات الحرق والسلب والنهب يتعلم كيف يمارس حريته.

فوجئ المحتلون وأتباعهم، أن العراقيين يرفضون أن يسلموا قيادهم للمحتل، وأنهم قد أعدوا العدة لمقاومة ضارية وطويلة، أكدت مؤشراتها منذ البداية على استمراريتها إلى أن يتم طرد المحتل، ويتحرر العراق، ويعود وطنا لكل العراقيين، بلا طائفية ولا تعصب قومي، ويعود له وجهه العربي الإسلامي، الذي استمد منه حضوره منذ قام بدوره الريادي شرقا، في معركة القادسية، بقيادة الصحابي الجليل، سعد بن أبي وقاص.

وكأن الاحتلال، وما تبعه من محاصصات طائفية وإثنية إيذان بانتقام، لا يبقي ولا يذر، من العراقيين لدورهم التاريخي المشهود له في الدفع بمسيرة الحضارة العربية الإسلامية. لكن المواجهة استمرت، واستعصى على الأمريكيين تحقيق أحلامهم، ولم يستطيعوا تأمين الطريق من مطار بغداد الدولي، حيث تتحرك طائراتهم وقاصفاتهم إلى المنطقة الخضراء، وسط بغداد، حيث يقع مقر قوات الاحتلال والحكومة المعينة من قبلهم. واضطروا لقطع الأشجار ومنع حركة المارة.. إلا أن المقاومة وقفت لهم بالمرصاد. وهوجمت مدينة الرشيد بغداد، ومدينة الحدباء الموصل، وتكريت وبلد وتل عفر والمشاهدة والقائم وبعقوبة وسامراء والفلوجة والرمادي بالطائرات، واستخدمت الأسلحة المحرمة، ومن ضمنها الأسلحة الكيماوية.. ولكن المواجهة استمرت في خط بياني متصاعد مخلفة عشرات الألوف من القتلى والجرحى في صفوف الأمريكيين وما يدعى بقوات التحالف، وقوات الشرطة التي أسسها الأمريكيون.

وكانت تعقيدات المواجهة بين الأمريكيين والإيرانيين حول الملف الإيراني، تضيف إلى المشكلة أبعادا جديدة، تضاعف من حدة أزمة إدارة الاحتلال. فمشروع المحاصصات الطائفية يستدعي بالضرورة حضورا إيرانيا في الساحة العراقية، لكن الأمريكيين كانوا يريدون تقنين هذا الحضور وفقا لاستراتيجياتهم، في حين كان الإيرانيون يريدون استثماره، ليطغى على كل حضور آخر. وهكذا وجد الأمريكيون أنفسهم في مأزق لا يحسدون عليه حيث وجدوا أنفسهم، في علاقتهم مع الإيرانيين، في حالتين أحلاهما مر. وذلك ما يعكس التخبط الحاصل، في تصريحات الأمريكيين في المرحلة الأخيرة، بين استنكار للتدخل الإيراني في شؤون العراق، وبين دعوتهم لهم في الأسبوع الأخير للتنسيق المشترك حول الحالة العراقية.

وبالتأكيد لم يكن الأمريكيون خارج دائرة الاتهام في الفتنة الطائفية التي يجري تأجيجها بين العراقيين الآن. فهذه الفتنة ستشغل العراقيين وتدفعهم للاقتتال فيما بينهم، وذلك من وجهة نظرهم كفيل بإضعاف المقاومة، وتوجيه سهام الاتهام لها، بأنها هي من يقف خلف هذه الفتنة. ومن جهة أخرى، فإن الإيرانيين يجدون فيها عاملا إيجابيا حاشداً للطائفة الشيعية لتقف خلفهم، وتدعمهم في الدفاع عن أنفسهم، بينما الخاسر الوحيد هو الشعب العراقي بأسره: عربا وأكرادا وتركمانا وشيعة وسنة ومسيحيين... كافة طوائف وأقليات العراق هي المتضررة.

لذلك يتجه المقاومون إلى الفعل والتصدي المباشر للاحتلال، بدلا من الانشغال بلعبة التقسيم، وتكتشف الإدارة الأمريكية خطل لعبتها، فتمارس من جديد عملياتها في مطاردة المقاومين.. فتتساوى جنين المقاومة في فلسطين التي تعرضت للاحتلال ثلاث مرات من قبل الصهاينة، مع المدينة العراقية التاريخية سامراء، حيث قام الأمريكيون بقصفها واحتلالها مرتين من قبل، ويقومون الآن باحتلالها للمرة الثالثة، وكذلك الحال مع الفلوجة، مدينة المساجد.. لكن المقاومة تستمر ثابتة في أدائها وعصية على المحتل، مؤكدة للأمريكيين وللعالم بأسره، أن الغمة ستنزاح عن العراق، وأن مشروع التفتيت الطائفي سيكون مصيره مصير الخيبات الأخرى، التي مورست ضد العراق، في العقدين المنصرمين.

في الذكرى الثالثة للعدوان الأمريكي على العراق، يتمسك العراقيون بهويتهم العربية، ويدافعون عن وطن شامخ وأبي، غير قابل للقسمة. يهتف الغيارى من أبناء العراق الصامدين المخلصين بلسان فصيح، بلغة أبي الأسود والحسن البصري، والفراهيدي والخليل بن أحمد، وبلهجة مدارس تقعيد العربية في الكوفة والبصرة: العراق باق... والاحتلال إلى زوال...

التعليقات