31/10/2010 - 11:02

في انفصال الوعي عن الواقع../ علي جرادات

في انفصال الوعي عن الواقع../ علي جرادات
في السياسة كما في كافة مجالات الحياة هنالك علاقة بين الواقع والوعي، وعلى مدى تطابقهما يتوقف مدى وعي البشر النسبي لحقائق واقعهم، الأمر الذي يتيح فرصَ التعامل الصحيح مع هذه الحقائق ومعالجتها معالجة صائبة، بعيداً عن المبالغات الذاتية، سواء تلك القافزة أو الهابطة عن واقعها.

وكقانون عام، تتأخر حركة الوعي عن مواكبة حركة الواقع، ذلك أن حركة الواقع هي مصدر الوعي وأسرع من حركته، لكن هنالك إستثناء تقدّم الوعي على واقعه أحياناً، وفي هذه الحالة تلد العبقرية، وعلى النقيض منها يقف التخلف الحاد في مواكبة الوعي للواقع، ما يلد الانفصال بينهما، الذي إن وقع في السياسة (كما في غيرها) تكون التعاسة، التي أعتقد أنها تشكل السمة العامة لراهن الحالة السياسية الفلسطينية.

دفعني الى هذا الاستخلاص القاسي ما يجري مِن انفصال بين ما يدور على أرض الواقع في فلسطين، وفي الضفة وغزة تحديداً، وبين ما يدور مِن خطاب (وعي) سياسي فلسطيني حوله، إنكشف بما لا يدع مجالاً للشك منذ يوم الثلاثاء الماضي، أي منذ إرتفاع وتيرة التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد غزة، مِن دون نسيان ما يجري في الضفة، بصورة نوعية. وقد إتضح ذلك جلياً في:

أولاً: بالرغم مِن القفزة النوعية في التصعيد العسكري الإسرائيلي؛ وبالرغم مِن جسامة الخسائر البشرية التي خلفها، وما زال يخلفها هذا الطور النوعي مِن جرائم الحرب الإسرائيلية؛ وبالرغم مِن مرور هذه الجريمة المتواصلة في ظل صمت دولي شبه كامل؛ وبالرغم مِن ضآلة الاحتجاج العربي الرسمي منه والشعبي على ما يجري؛ أقول بالرغم مِن كل ذلك، وفي ظله، لم يجرِ حراك نوعي في طبيعة الخطاب السياسي الفلسطيني، الذي لم يغادر سمة الدوران حول ذاته، ومواصلة إنشغاله فيما طغى عليه مِن تركيزٍ على هموم الإنقسام الداخلي، وما خلقه مِن اتهامات متبادلة، لم يعد وطنياً فلسطينياً عاقلاً يأبه لسماعها أو التعامل معها بجدية أو تصديق مَن يطلقها مِن على شاشات الفضائيات، وعبر المؤتمرات الصحافية التي يجري عقدها لهذا الغرض. وللتدليل لا الحصر: أليس مِن المفجع أن لا يكون المؤتمر الصحافي الذي عقده السيد سعيد صيام، القيادي البارز في حركة حماس ووزير الداخلية في الحكومة العاشرة للسلطة الوطنية، حول تدمير مقر وزارة الداخلية في غزة، وحول ما خلفه هذا التدمير مِن ضحايا، كانت غالبيتهم مِن الأطفال، أبكى مشهد أشلائهم مقلة كل مَن لم يعتلِ الصدأ ضميره بعد، لا مِن الفلسطينيين وحدهم، بل مِن البشر عموماً؟!!! بلى؛ لقد كان تركيز المؤتمر الصحافي على اتهام أوساط في حركة فتح بالعمل على اغتيال السيد اسماعيل هنية، في هذا التوقيت بالذات أمراً مفجعاً، بصرف النظر عن مدى صحة هذا الاتهام الذي كذبته حركة فتح وأوساط الرئاسة الفلسطينية بصورة رسمية، وهو ما سيضيف عاملاً آخر مِن عوامل استمرار دوامة خطاب الإتهام والإتهام المتبادل بين طرفي الإنقسام الفلسطيني الداخلي، وطغيانها على ما يجري في الواقع مِن عمليات استباحة إسرائيلية لكل ما هو فلسطيني، هي استباحة، وإن تركزت بالمعنى العسكري في جولاتها الأخيرة على غزة، إلا أنها لا تقتصر عليها، بل تطال الضفة، وشمالها بصورة خاصة، فضلاً عن معناها الإستيطاني الذي يتركز أساساً على القدس ومنطقة الأغوار.

وأظن أن هذا ما حدا بالرئيس الفلسطيني الى المبادرة والإتصال بالسيد محمود الزهار وتقديم واجب العزاء باستشهاد نجله الثاني، وتلك لفتة وطنية مسؤولة، كان يجب مقابلتها بلفتة مماثلة مِن غزة، وذلك ارتباطاً بقسوة ما يقوم به جيش الاحتلال مِن جرائم فاقت كل تصور، وإنسجاماً مع المزاج الشعبي الفلسطيني، الذي يخطيء كل مَن يعتقد أنه كان يوماً، أو يمكن أن يكون في يوم مِن الأيام، في خانة غير خانة الدعوة الى استعادة وحدة الصف الوطني في مواجهة جرائم الاحتلال، والتواطؤ الدولي، وخاصة الأمريكي، والعجز الرسمي العربي عن الإنتفاض على ما يعيشه مِن ارتهان وتفكك.

نعم؛ إزاء التصعيد العسكري الإسرائيلي؛ وإزاء غزارة سيلان الدم الفلسطيني؛ وإزاء التواطؤ الدولي والعجز الرسمي العربي، كان يجب، وما زال، وسيبقى يجب أن يتحرك الوعي السياسي الحزبي الفلسطيني، ولو قليلاً، نحو فضاء الوعي السياسي الوطني، الذي دون بلوغه يبقى الوعي السياسي الفلسطيني يتمرغ في تعاسته الناجمة عن تخلفه وانفصاله عن واقعه، لا يشكل ما يدور على أرض غزة سوى غيض مِن فيض قسوته المتواصلة منذ وقوع "النكبة" قبل ستين عاماً، فضلاً عن ثلاثة عقود سبقت وقوعها ومهدت لها.

وفي هذا يكمن سر عدم التفات الشارع الفلسطيني الى التدقيق فيما يجري تبادله مِن اتهامات بين الأطراف السياسية الفلسطينية، فمع رائحة الدم المسفوك بغزارة في غزة والضفة، لا يمكن لحاسة الشم الفلسطينية، في مستواها الشعبي، أن تشتم غير رائحة هذا الدم، كما لا يمكن للأذن الشعبية الفلسطينية أن تسمع غير صرخات أمهات وآباء وذوي الشهداء والجرحى.

ثانياً: بالرغم مِن أن التصعيد العسكري الإسرائيلي لم يستثنِ الضفة، وإن تركز على غزة في جولاته الأخيرة، إلا أن هناك مَن لا يزال يصر على أن المستهدف هو هذا التنظيم الفلسطيني أو ذاك. وفي هذا تخلف للوعي السياسي الفلسطيني عن ادراك واقعه، لا في لحظته الراهنة فقط، بل في تاريخه أيضاً، ذلك أن الاستهداف الإسرائيلي للأحزاب الفلسطينية لم يكن في يوم مِن الأيام الا بمقدار تعبير هذه الأحزاب عن هموم الوطن والشعب اللذين جرى استهدافهما قبل نشوء الأحزاب في الواقع الفلسطيني، بل إن تاريخ الصراع يشهد بأن أحزاباً فلسطينية كانت في الماضي، أو ما زالت قائمة اليوم، لم يجرِ استهدافها، ولم توضع على لائحة التنظيمات المحظورة وفق قوانين الاحتلال، أو جرى استهدافها بعدما انخرطت في عملية مقاومة الاحتلال والدفاع عن الوطن والشعب.

إزاء هذا النمط مِن حقائق الواقع، ألا يعكس إصرار البعض على دعاية أن المستهدف مِن وراء عملية التصعيد العسكري الجارية، هو هذا الحزب الفلسطيني أو ذاك، شكلاً مِن أشكال تخلف الوعي السياسي الفلسطيني عن واقعه، وبالتالي استمرار غرقه في تعاسته، التي بلغت ذروتها منذ عامين ويزيد؟!!!

في ضوء تصعيد الحملة العسكرية على غزة أساساً وفي الضفة أيضاً؛ وفي ضوء ما خلفته مِن مجازر بشعة؛ وفي ضوء انعدام اي رد سياسي دولي أو عربي يذكر على مثل هذه المجازر، يصبح المطلوب، وكما صرح أكثر مِن مسؤول فلسطيني، أن يكون هناك رد عملي فلسطيني، أراه فضلاً عن التوحد الميداني في مواجهة التصعيد الإجرامي الإسرائيلي، رداً سياسياً، لا يمكن أن يكون جاداً أو حقيقياً أو ذا مغزى وجدوى عملية، دون أن يطال الكف عن تبادل الإتهامات، والتجرؤ على "فتح صفحة جديدة" في العلاقات الداخلية الفلسطينية، ووضع استعادة وحدة الصف السياسي الفلسطيني على رأس سلم الأولويات، والتعامل معها كضرورة قصوى وحلقة مركزية، وتقديم كل طرف الاستحقاقات المترتبة عليه لإنجازها. هذا هو الرد العملي الناجع على التصعيد العسكري الإستيطاني التهويدي الإسرائيلي الجاري في ظل صمت دولي مريب، وعجز رسمي عربي مشين، ودونه يبقى الوعي السياسي الفلسطيني يدور في حلقة تخلفه عن حركة واقعه، وتخبطه في تعاسته، التي فاقت كل تصور.

التعليقات