31/10/2010 - 11:02

في ذكرى رحيله: رسالة إلى عبد الناصر في وصف حالتنا/عبد الإله بلقزيز

في ذكرى رحيله: رسالة إلى عبد الناصر في وصف حالتنا/عبد الإله بلقزيز
أبا خالد،

بَعُدَ العهدُ بك عن قراءة ما كان يُؤتَى إليك به من رسائلَ وتقارير، تقرأها وتعلّق عليها في الحواشي قبل ختمها أو إحالتها أو حفظها في الأرشيف الرئاسي. كانت تنهمر على مكتبك يومياً: هذه من أمين هويدي أو الفريق فوزي، وتلك من شعراوي جمعة أو علي صبري، وهاتيك من هيكل أو محمد فائق أو فتحي الديب... إلخ. وسامي شرف خط الربط اليومي بينك وبين مصادر المعلومات. أستأذنك في أن أكسر هدأتَك الطويلة، أبا خالد، وأستأذنك في <<رفْع تقرير>> إليك في وصف حالتنا اليوم: بعد ثلاثين عاماً وخمسة أعوام من رحيلك، ومن <<يُتم جماعي>> عربيّ لم نوفَّق بعد في الخروج من نَفَقِه، ومن أثقاله النفسية الشديدةِ الوطأة علينا.

هل تعلم ما نحن فيه اليوم من سوء حالٍ وبؤِس مآل؟
لقد <<انتهى>> الصراع العربي الإسرائيلي الذي أنفقتَ عمرك العسكريَّ والسياسيَّ فيه: منذ حصار الفالوجة وإلى إخمادك حرائق القتال الأردنيّ الفلسطيني في الهزيع الأخير من نبض قلبك. لكنه ما انتهى بدحر <<إسرائيل>> وتحرير فلسطين، ولا حتى بتسوية سياسية <<عادلة>> على مقتضى القرار 242 الذي اعترفتَ به مرغَماً وإنما <<انتهى>> بتسوية قضية فلسطين على الأرض وإهالة التراب على جثمانها، و<<انتهى>> باحتلال علم <<إسرائيل>> عواصمَ عربِ اليوم وأولاها عاصمة مُلْكِك وحاضرة سلطانك المعنويّ في بلاد العرب جميعاً. أما السيوف، فأُدخِلَت في أغمادها وجَنَحَ أصحابها ل<<السلم>> حتى دون أن تجنح <<إسرائيل>>. وها هي الأسلحة التي اقتُنِيَتْ مُقْتَطَعَةً من رغيف الخبز والمدارس والمستشفيات تَصْدَأ في مستودعاتها.

ولولا قلّة قليلة من أبنائك في فلسطين وجنوب لبنان والعراق نَهَضَتْ بفرض الكفاية القتالي، بعد إذِ ازْوَرَّتِ الجماعةُ عن النهوض بفرض العين ازوراراً، لقلنا إن الهدنة زحفت على النفوس بعد الجبهات وخَرَّتِ الهمم واستسلمت الإرادات.

وانتهتِ التنميةُ الوطنية المستقلة وبرامجُ الرعاية الاجتماعية وذهب القطاعُ العام إلى رحمة الله، فبيعَت ممتلكاتُ الشعب والدولة ل<<القطط السِّمان>>، وأطلق الاستخصاص ( الخصخصة) قوى طيفليةً متوحشةً في اقتصادات البلدان العربية نَمَّتْ ثرْوَاتِها من سرقة المال العام أو من الاستثمار في الاقتصاد الموازي غير الشرعي: تجارة السلاح والمخدرات والتهريب...؛ وأُثْقِل كاهلُ الدولة بالمديونية، فطفقت نخبُها الحاكمة تسدِّد ديونَها وأقساطَ ديونِها من جيوب الفقراء وحقوقهم في التنمية الاجتماعية تاركةً أهل اليَسَار ( اليُسْر) في ثرائهم الفاحش يَعْمَهُون، مُعْفِيَةً إياهم من دفْع حقوق الشعب والدولة عليهم، متعلِّلة بما في الضرائب من إرهاقٍ لهم قد يَكُفُّهم عن الاستثمار في البلاد. لقد خرجنا في عهدك أبا خالدٍ من الاستعمار الأجنبي، وها اننا اليوم نواجه استعماراً داخليّاً من فئاتٍ وطبقات ليست منّا، ولا تتحدث بلغتنا، ولا تهجس بهواجسنا، ولا نكاد نرى بعض كبرائها إلا في نشرات الأخبار المتلفَزَة!

ولقد توقَّف العمل طويلاً بمفردة الاشتراكية، أو العدالة الاجتماعية، فخرجت من قاموس السياسات الرسمية وانسحبت من مجال التداول العمومي، فما عاد أحدٌ يتحدث عن الفقراء أو عن حقوق الكادحين. حتى الذين كانوا على يسارك فكريّاً، أمسكوا عن مديح الكادحين، بل أصاب كثيراً منهم مَسّ من الحبّ لليبرالية والاقتصاد الحرّ بعد إعياءٍ من طول الحديث عن الاشتراكية، وبعد أن قَضَى الاتحاد السوفياتي نَحْبَه.

ومقابل ما كنتَ تدافعُ عنه من حقوقٍ للفقراء <<الغَلاَبَة>>، لم يعد لديهم من الحقّ سوى <<الحق في المعاناة>>. فلقد باتوا لا يستطيعون إرسال أبنائهم إلى المدارس أو العلاج في المستشفات لأن عليهم أن يدفعوا ما ليس لهم منه شيء: المال. أما العمل، فممتنعٌ عليهم بعد إذْ أُقفلتِ المصانع وخَرِبَتِ الزراعةُ وتكدست أعداد العاطلين بالملايين، وانسدَّت أمامهم فرص الهجرة بحثاً عن الأرزاق في بلاد الله الواسعة!

ثم ما تَحَقَّقَ من الوحدة العربية، التي بها آمنتَ وعليها عملتَ طويلاً، شيءٌ ما خلا وحدة أجهزة الأمن والاستخبارات؛ وما تَبَقَّى، أقطارُ مُقْفَلَةٌ على بعضها كالغيتوَات ولا تُفْتَح إلاّ على خارجٍ أجنبيٍّ يستبيحُها. والأنكى والأمَرُّ مِمَّا يُمِضُّ النفسَ أبا خالد أن وحدة تلك الأقطار نفسها باتت عرضةً، اليوم، لتفتيتٍ جديد: تارةً باسم حقوق القِلاَّت، وتارة باسم الحكم الذاتي، وطوراً باسم الفدرالية. ولقد نشأ جيْلٌ سياسي ثالث من الكيانِيِّين العرب غير جيْلك الذي قدَّس الوحدة، وغير الجيل (الثاني) الذي قدَّس الدولة الإقليمية ( الوطنية أو القطرية)، إنه الجيل الذي يقدس اليوم الدولة العصبوية (أو دويلات العصبيات والطوائف والمذاهب): جيل <<الفدراليين>> الذي ابتذل معنى الفدرالية حين زجَّ بفكرتها في فضاءٍ ليس فضاءَها: عنيتُ به فضاءَ المِلل والنِّحَل! فَمَسَخَ الفدرالية ( الديموقراطية) كما مَسَخَ مَنْ سَبَقَه معنى الحداثة والاشتراكية والقومية...

ولقد غادرْتَنا وأقطارُنَا حرَّة مستقلة، وها هو الاستعمار يعود إليها اليوم بالغزو الكولونيالي العنيف (كما في العراق)، أو بزرع القواعد العسكرية في الكثير من بلاد العرب، أو بإدارة شؤون دولها وحكوماتها من سفراء الدول الكبرى وقناصلها في عواصمنا!

ولقد تحوّلت حركةُ التحرر الوطني، التي أجزلتَ لها الدعم والسَّند، وفتحتَ لرجالاتها بوابّات القاهرة، حركات <<إرهابية>> ملاحَقةً من الاستخبارات الأميركية والأوروبية شأنها شأن حركات التطرف الأخرى من دون تمييز بينها! بل إن أجهزة استخبارات عربية تقدم مساهمتها في تزويد صديقتها الغرْبية بالمعلومات عنها، ومعظمُها لا تعرفه أبا خالد مثل <<حماس>>، و<<الجهاد الإسلامي>>، و<<حزب الله>>، والمقاومة الوطنية العراقية، و<<الجيش الجمهوري الأيرلندي>>، و<<مجاهدي خلق>>، و<<حزب العمال الكردستاني>>...

أما حركة عدم الانحياز وفكرة الحياد الإيجابي التي كنتَ من بُنَاتها ومؤسّسيها الكبار، فآلت إلى أشدّ ما يكون عليه الانحياز إلى سياسة الدولة العظمى الوحيدة في العالم. ولولا أن رفاقك الصينيين والكوبيين الأُبَاة ( وقد انضاف إليهم طيب الذكر الفنزويلي هوغو شافيز: الذي لا تعرفه، لكنه معجَب بك جدّاً كما يقول) ظلوا مستمسكين باستقلالية قرارهم والدفاع الثابت عن ديارهم، لتوَحَّدَ العالم الثالث كلُّه وراء أميركا!
وبعد،

ما كان سَرَّكَ لو عشتَ حتى هذا الزمان، أبا خالد. رحلتَ في عزّك ورَحَلَ العِزُّ معك. أما نحن، فعلينا أن نتحمَّل كثيراً: القمعَ والقهر والفقر والحرمان والاحتلال؛ وأن نتماسك ونحن نعاين فصولاً من اقتلاع العروبة في العراق أو شتمها على مذبح <<الأرز>> في لبنان. فلقد <<قَتَلَتْنَا الرِّدَّة... قَتَلَتْنَا أن الواحدَ منَّا يحمل في الداخل ضدَّه>> (يقول مظفر النواب). ما أبعد المسافة بين زمنٍ كنتَ فيه وكان، وزمنٍ نحن فيه الآن.
كأنك لم تكن فينا قبل عقودٍ قليلة. كأنك كنتَ فينا قبل مئات السنين.

التعليقات