31/10/2010 - 11:02

في فلسطين، الاحتـلال هـو الأصل../ إلياس سحاب

في فلسطين، الاحتـلال هـو الأصل../ إلياس سحاب
لعل أخطر ما واجهناه من خلل جوهري في ادارتنا العربية عموما لمجريات الصراع العربي ـ الاسرائيلي، قبل ولادة دولة اسرائيل وبعد ولادتها وحتى يومنا هذا، هو تركيزنا من البداية الى النهاية على الجانب العسكري من الصراع، فإما هو معركة حربية ننتصر فيها، او معركة حربية نهزم فيها. ومن ابرز تجليات هذا الخلل التاريخي، اننا نؤرخ للمحطات الاساسية، بل والفاصلة في هذا الصراع، بمحطات احداثه الحربية فقط (1982 ,1973 ,1967 ,1956 ,1948 الخ....)، بينما كنا الى حد بعيد، وفي معظم الاوقات لا اقصرها، غافلين عن الميادين الاخرى للصراع، التي كان التحالف الاميركي ـ الاسرائيلي وما زال يسرح فيها ويمرح، من الميدان الثقافي، الى الميدان الاقتصادي الى الميدان الاعلامي الى الميدان السياسي، يغير فيها هذا التحالف وفق هواه ومصالحه ويبدل، حتى اصبحت المسافة بين الحقائق الطبيعية الاساسية للصراع في منتصف القرن العشرين، مختلفة تماما عن «الحقائق» المصطنعة بحذق ودهاء وعقل شرير، منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا.

ان مقارنة سريعة بين فلسطين في اربعينيات القرن العشرين، وطنا لسكانه الاصليين، ثم تحويلها الى مشروع دولي للتقسيم بين سكانه الاصليين وجحافل المهاجرين اليه برعاية الانتداب البريطاني، فإلى كيان صهيوني مستقر (برعاية دولية تامة) في ثلاثة ارباع فلسطين التاريخية، ومسيطر بالاحتلال الدائم (منذ اربعين عاما وحتى اشعار آخر) على الربع المتبقي منها، يشعر ان ما يجري في قطاع غزة الضيق في هذه الايام، هو النهاية المنطقية لمرحلة كاملة من التدهور التاريخي للقضية.

لقد بدأت المحاولات الدولية في مطلع عقد الخمسينيات، لتصفية آثار الجريمة التي ارتكبها المجتمع الدولي على ارض فلسطين في اربعينيات ذلك القرن، بمشاريع ارادت نزع الجوهر السياسي للقضية واستبدال جوهر انساني سطحي به، بحصر القضية كلها، بتأمين لقمة العيش وفرصة العمل، لملايين البشر الذين شردهم ما تم على ارض فلسطين في العامين 1947 و.1948 وقد اعتقدنا يومها اننا افشلنا هذا المشروع الدولي بمجرد رفضه. لكن التحول التاريخي بدأ يحفر عميقا في ارض الصراع طولا وعرضا، في فلسطين وكل ما جاورها من ارض عربية، حتى وصلنا الى ما يحصل اليوم في قطاع غزة.

إنه التدهور التاريخي بأسوأ مظاهره وتجلياته. فها هي قضية فلسطين تمضي في التقلص وتستمر في التقلص، حتى يصبح تأمين لقمة العيش ووسائل الحياة اليومية العادية لمليون ونصف مليون فلسطيني يعيشون في غزة، هو «اصل» القضية، في مقابل الامان التاريخي العميق والمستمر، ليس فقط للكيان الذي اغتصب من ارض فلسطين اكثر ما خصص له القرار الدولي مرة ونصف مرة، بل ايضا لترسيخ احتلال هذا الكيان للربع المتبقي من ارض فلسطين، بعد قيام المجتمع الدولي والعجز العربي بترك يدي ذلك الاحتلال طليقتين في مسح القطاع مسحا متدرجا ارضا وبشرا، بحجة انه وكر «للارهاب» الذي يهدد امن وهدوء استقرار واحة الحضارة الانسانية في مستعمرة سيديروت.

فإذا سألت عن الموقف العربي، فيمكنك العثور على خلاصته المركزة، في تصريح سفير مصر السابق في اسرائيل، الذي ظل منذ ايام يكرر التفاخر بأن لا علاقة لمصر رسميا بالاتفاق الذي عقدته السلطة الفلسطينية مع اسرائيل والمجتمع الدولي، بشأن تحديد السيادة على حدودها مع مصر في رفح. كما ستجد لها خلاصة اكثر تركيزا في تصريح لاحق لوزير الخارجية المصري، يتهيأ لك بعد قراءة نصه، ان جحافل الفلسطينيين المتدفقة من غزة باتجاه الحدود المصرية، هي التهديد الاعظم، لأمن مصر القومي، وان الرجل (الفلسطينية طبعا) التي ستجتاز هذه الحدود، سوف تكسر.

لم يكن بوسع اي متشائم في المنتصف القرن المنصرم، ان يتخيل نهاية اكثر مأساوية لقضية فلسطين في التصاغر والتضاؤل والتدهور والانحطاط الى هذا المستوى، مما يؤكد تماما ان هذه المرحلة مقبلة على حالة الموت السريري، وأنه لم يبق في يد الفلسطينيين، ولا في يد العرب عموما، ما يديرون على اساسه الصراع التاريخي المفتوح مع اسرائيل، سوى اقفال ملف هذه المرحلة اقفالا تاما، ومحاولة الشروع في مرحلة جديدة تعود فيها الحقائق الاساسية في القضية التاريخية الى مسارها الطبيعي، فنعود جميعا، وبلا فوارق بين المستوى الشعبي والمستوى الرسمي، الى تمثل هذه الحقائق، والتعامل معها كما هي في الاصل، لا كما نتوهمها الآن. وعلى رأس هذه الحقائق ان الاحتلال الاسرائيلي لارض فلسطين، هو اصل القضية، وانه التهديد الاعظم للامن القومي للعرب، كل العرب، من محيطهم الى خليجهم، بأكثر مما هو تهديد لامن الفلسطينيين وحياتهم.بعد ذلك فقط يمكننا العودة الى التعامل الجاد مع القضية، في كل ميادينها، وليس الميدان العسكري فقط.
"السفير"

التعليقات