31/10/2010 - 11:02

قصة شعب ماتت ثقافته../ جميل مطر*

قصة شعب ماتت ثقافته../  جميل مطر*
تعلمنا أن الثقافات تولد وتموت. ونعرف أن في البرازيل والإكوادور وبيرو وفنزويلا تموت ثقافات بالعشرات بسبب قيام شركات ومزارعين كبار باقتلاع غابات الأمازون لبيع أخشابها أو لزراعة فول الصويا وقصب السكر. ويعيش حالياً بين قبائل الثقافات المهددة بالانقراض باحثون نأمل أن يشرحوا لنا ذات يوم الطريقة التي استعدت بها هذه القبائل، قيادات وشعوباً، لبناء أو لمواجهة “ثقافة ما بعد موت الثقافة”.

لم أكن اطلعت على قصة كاملة لموت ثقافة، حتى نشرت إحدى أهم مجلات عروض الكتب في العالم (نيويورك ريفيو أوف بوكس) عرضاً كتبه شارل تايلور لكتاب كتبه جوناثان لير بعنوان “الأمل الراديكالي”. يحكي المقال والعرض تفاصيل قضية موت ثقافة، كما رواها شيخ معمر من قبيلة “الغراب”، إحدى قبائل الهنود الحمر. أود أن أوضح في البداية أن عبارة ثقافة شعب كما ترد هنا، وكما تحدث عنها مؤلف الكتاب وعارضه، أقصد بها هذه المنظومة التي ينضوي تحت مظلتها أسلوب حياة أفراد المجتمع ومصادر إيمانهم وعقائدهم الإنسانية ومجموعة القيم الأخلاقية والاجتماعية التي يلتزمها الأفراد في علاقاتهم ببعضهم البعض وعلاقاتهم مع الغرباء.

ماتت ثقافة “شعب الغراب” عندما قررت حكومة الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر حرمان أفراد هذه القبيلة من ممارسة الصيد ونقلهم بالقوة للعيش في أرض بعيدة عن أرضهم لا يعيش فيها طير أو حيوان ومحاطة بأسوار وحراسة. وكانت الحكومة في واشنطن تعرف جيداً ماذا يعني الصيد لقبائل لم تمارس على مدى قرون حرفة أخرى، كانت تعرف أنه يعني المأكل والملبس ويعنى أيضاً الأخلاق والقيم والدين والزواج والإنجاب والماضي موروثاً والمستقبل عند الأفق منتظراً وجاهزاً.

منقولة عن شيخ القبيلة المعمر في آخر سنوات عمره عبارة تمثل قصة موت ثقافة شعب، وروح هذا الشعب. قال الشيخ، “عندما رحل الجاموس، وقعت قلوب شعبي على الأرض، ولم يتمكن الشعب من رفعها، وبعد ذلك لم يحدث شيء”. توقفت عند الكلمات الخمس التي ختم بها الشيخ حديثه، كما توقف عندها المؤلف. ماذا يقصد الشيخ؟ هل يقصد أن الناس أصابها الاكتئاب؟ أم أصابها ما هو أسوأ، أصابها الشعور بانعدام القيمة والجدوى. فإن أنت حرمت شعباً من الشيء الذي يتميز فيه ويفخر به ويعيش عليه فقد حرمته من سبب وجوده ومعنى حياته. وفي حالة شعب “الغراب” كان الشرف والامتياز والإنجاز والإبداع كلها صفات مصدرها ومحورها الصيد والقنص.

كان الإنسان في قبيلة “الغراب” يصطاد في أرض قبيلته على اتساعها، ولكن أحلى الصيد وأمتعه ما جاور الحدود أو تجاوزها. هناك على الحدود كانت تقف مغروسة في الأرض عصي، كل واحدة منها تمثل عدواً وقع قتيلاً في هذا المكان. كانت العصا دليل شجاعة المقاتل أو المقاوم الذي انتصر على عدوه، وكانت أيضا علامة حدود “ثقافة القبيلة”. ويقع على عاتق جميع أفراد الشعب التضحية بالروح أو الدم أو بغيرهما لحماية هذه العصي ومنع الغرباء من تجاوزها. وكان منظر العصي على امتداد البراري أو السفوح كافياً لأن يحترم ابن القبيلة وابن “الآخر” ثقافة هؤلاء الأبطال الذين تعهدوا حماية ثقافة القبيلة، أي مصادر رزقها وأسلوبها في الحياة ومعتقداتها الروحية والمادية. ولم تكن قليلة الشعوب التي اعتقدت أن طريقة حياتها ومعتقداتها تستحق أن يموت الناس من أجلها، واعتقدت أن لثقافتها حدوداً يجب على الآخرين احترامها، وآمنت بأن الظروف قد تفرض عليها حمل السلاح لمقاومة غارات الأعداء الذين يهددون هذه الثقافة ويريدون محوها أو تغيير بعض مكوناتها.

ويحملنا الكتاب في رحلة افتراضات وقناعات آمنت بها قبائل وشعوب عاشت قبلنا. ماذا يحدث لو أن كل شعب ترك حدود ثقافته مفتوحة للغرباء؟ ألم تمثل هذه العصي التي غرسها الأبطال والشجعان الدليل على وجود ثقافة متميزة أو على الأقل مختلفة وراءها؟ وماذا كان يحدث لو لم توجد هذه العصي الحارسة للثقافة؟ وهل كان يمكن أن توجد “ثقافة” لو لم يوجد أبطال انتصروا وغرسوا هذه العصي؟ ماذا يحدث لو اختفت هذه العلامات الحدودية وتعرضت الأرض للغزو على أيدي “الآخر” القادم من الجهة الأخرى للحدود ليفرض تحريم الصيد وحرمان القبيلة وشعبها من سبب وجودهما؟

لن يكون هناك صيد يمارسه الفرد في هذه القبيلة وعندما لا يوجد صيد فلا أرض للدفاع عنها. لا صيد ولا حرب. وبالتالي لا ثقافة ولا قيم ولا أخلاق ولا دين. كانت القبيلة، في زمن الصيد والقنص والبطولات، تحتفل كل موسم بحصر العصي على الحدود.

وكانت العصي المضافة دليل ازدهار الثقافة والخير ورضا الآلهة. ولكن ما أن احتل الآخر بعض الأرض وحرم الصيد، حتى ماتت الثقافة، فلا احتفال ولا حصر لعدد العصي، ولا اعتزاز ولا إبداع ولا رغبة في التضحية. لا شيء بعد موت الثقافة يستحق التضحية ولا شيء يبذل من أجله جهد الدفاع فتستعد القبيلة للحرب وتتدرب على القتال. ولا شيء يفخر به الناس فتحتفل بحصره، لم تعد هناك عصي ولا حدود.

قد لا يقدر بعض الأمم، في عصر العولمة وعدوانية القيم والثقافات الكاسحة، أهمية الدفاع عن ثقافة أمة وخطورة أن تفقد أمة ركائز ثقافتها وعلاماتها المميزة. ويبدو أن شيخ شعب “الغراب” أدرك أن ثقافة الغزاة غير مؤهلة لفهم مكونات ثقافة تموت أو ماتت بالفعل، أو اكتشف أن الأمر لن يهمها، لذلك أراد للأمريكيين البيض أن يفهموا على الأقل ما حدث لشعبه وثقافة شعبه فقال لهم “تخيلوا لو أن فرداً أمريكياً ذهب كعادته إلى مطعم الوجبات السريعة، نموذج ثقافة أمريكا الراهنة، وطلب شطيرة همبورجر، فيجيبه النادل، آسف لقد ذبحنا بالأمس آخر بقرة، ولن تعيش في أمريكا بعد اليوم أبقار أخرى”، في تلك اللحظة مات شيء مهم في ثقافة أمريكا، لأن الأمريكي حسب رأي شيخ القبيلة توقف عن ممارسة شيء مهم في هذه الثقافة. ما بالك وقد ماتت ثقافة بأكملها حين قررت أمريكا تحريم الصيد على شعب قبيلة “الغراب”. توقفت القبيلة عن ممارسة الصيد، فتوقف إحساسها بوجود شيء يستحق الدفاع عنه، وتسرب الشعور باللامبالاة، “وبعد عقد أو عقدين أو نصف قرن لن تذكر أنت ولن يعرف أولادك ثم أحفادك، أن شيئاً مهماً كان موجوداً وضاع، أو مات”.

لن يقف التاريخ لينتظر أمة أو شعباً أو قبيلة ماتت ثقافتها ولم تبذل الجهد الكافي في الوقت المناسب لحماية حدودها من العبث بها، وتركت لخصومها حرية نزع علامات البطولة والشهامة على طول حدود ثقافتها في كل الاتجاهات. الآن أستطيع فهم القصد من الكلمات الخمس التي نطق بها زعيم شعب الغراب، “وبعد ذلك لم يحدث شيء”. هل صحيح أنه إذا ماتت أو انحسرت “ثقافة جماعة إنسانية”، أيا كان عدد أفراد هذه الجماعة، بالملايين كانوا أو بالعشرات، فلن يحدث شيء من جانب هؤلاء الأفراد سواء كانوا من النخب القائدة والموجهة للمجتمع أو من عامة الجماعة؟ أتصور، أو أخشى، أن افتراضي صحيح. فالناس ليسوا الناس الذين كانوا، والثقافة الجديدة، إن وجدت، ليست الثقافة التي كانت. وقد يصدق على هذه الحالة القول بأن الناس كانوا كما كانوا لأن ثقافتهم كجماعة جعلتهم هكذا. وعندما ماتت الثقافة، استمروا ناساً ولكن ليسوا كالناس.

أظن شيئاً كهذا، أو قريباً إلى هذا، حدث مع كل الشعوب “الأصلية” التي عاشت في الأمريكتين وأقاليم استراليا ونيوزيلندة وبعض مناطق إفريقيا وفي أقاليم في الشرق الأوسط. حدث أن ماتت ثقافات كانت بسيطة، أي غير مركبة، كثقافة الشعوب التي عاشت على الصيد وحده، أو عاشت لمدد طويلة على الزراعة وحدها. وبعد موتها عجز الناس عن التأقلم مع أساليب حياة أخرى، وأصابهم، في الغالب، الاكتئاب أو اليأس أو التسليم واختاروا، أفراداً أو جماعات، طرق العنف والجريمة والتهريب وقطع الطرق والقمار والدعارة، أو اختاروا اللامبالاة.

ومن قراءة الآثار المتعددة والمتباينة للعولمة والتطورات “الواسعة” التي وقعت على امتداد العقدين الأخيرين، يبدو لي أن الثقافات السائدة ليست فقط من نوعين، ثقافات بسيطة وهذه تموت في المواجهة الأولى مع قوى العولمة والغزو، وثقافات مركبة تتأقلم بسرعة مع الثقافات الغازية والطاغية أو تتبناها. لكن هناك نوعاً ثالثاً، وهي ثقافات لا تتبنى ولا تتأقلم ولا تموت، إنما تعاني وتتعذب وتحاول يائسة بث الروح فيما مات من أركان ثقافاتها وترفض القتال والمقاومة دفاعاً عما تبقى حياً.

"الخليج"

التعليقات