31/10/2010 - 11:02

لا آفاق حقيقية للتسوية .../ د.علي الجرباوي

لا آفاق حقيقية للتسوية .../ د.علي الجرباوي
لحدوثها بعد سلسلة من فضائح الفساد التي زعزعت الثقة العامة بالسياسة والساسة، وافتقادها لحيوية وكرزما القيادات، وافتقارها لقضية محورية جامعة ومُثيرة، جاءت الانتخابات “الإسرائيلية” مُملّة ليس فقط للمراقبين والفلسطينيين، بل أيضاً للناخبين “الإسرائيليين” الذين أحجم قسم كبير منهم عن المشاركة، فكان الاقتراع بأقل نسبة تصويت في تاريخ “إسرائيل”.

تعددت القضايا والاهتمامات على مواضيع عديدة، داخلية وخارجية، فتبعثرت النتائج، قسم صوّت للفصل أُحادي الجانب، وآخر لاستمرار المفاوضات، وثالث لطرد الفلسطينيين وعزلهم، ورابع للدين والتوراة، وخامس للمُخصصات التقاعدية. ومع أن الانتخابات “الإسرائيلية” كانت دائماً تُنتج قوس قزح من البرامج والقوائم الممثلة في الكنيست، إلاّ أن التنوع في الخلطة هذه المرّة جاء واسعاً وعريضاً. غياب شارون يُخسّر كاديما مقاعد، ووجود نتنياهو يُخسّر الليكود مقاعد، وصعود بيرتس يُعطي حزب العمل أملاً. الروس يصبحون قوة سياسية، وسفاردية شاس الدينية والعنصرية تتقدم. سياسة واقتصاد وقضايا اجتماعية متنوعة ستتشابك في حكومة ائتلافية قد يُشكّل الانفصال أُحادي الجانب عن الفلسطينيين محورها ليس لكونه القاسم المشترك الأعظم للقوى المشاركة فيها، بل لعدم وجود قاسم مشترك آخر يجمعهم.

لنحكم على برنامج الحكومة المقبلة، علينا الانتظار لنعرف ماهيّة تركيبتها الائتلافية، من سيدخلها ومن سيبقى خارجها. ولكن يجدر الانتباه أن التوجهات السياسية في “إسرائيل” آخذة في التوجه نحو اليمين. فعندما يُصبح حزب كاديما هو الوسط (center) في “إسرائيل” فإن ذلك يعني أن هذا الوسط قد تحرك فعلياً نحو اليمين.

بالتأكيد لهذا دلالة سياسية مهمة هي أن التعامل “الإسرائيلي” المستقبلي مع الفلسطينيين والتسوية السياسية سيكون أكثر تشدداً وتطرفاً مما سبق. وشاءت الظروف والانتخابات الفلسطينية أن تكون حركة حماس في هذا الوقت بالذات على رأس هرم السلطة الفلسطينية، الأمر الذي سيمنح التوجه نحو اليمين في “إسرائيل” الكثير من الذخيرة الجاهزة للاستخدام.

بغضّ النظر عن تشكيلة ائتلافها، ستدّعي الحكومة “الإسرائيلية” القادمة ليس فقط عدم وجود شريك فلسطيني لإحياء التسوية السياسية ومسارها التفاوضيّ، وإنما أن السلطة الفلسطينية إرهابية ويجب عزلها وعدم التعامل معها. إذا كان حزب العمل جزءاً من هذه الحكومة فسيُطالب بالتفاوض مع الفلسطينيين للوصول إلى التسوية النهائية التي لا تختلف كثيراً في جوهرها عما يطرحه أولمرت في برنامج كاديما للانفصال أُحادي الجانب. ولكن وجود حكومة حماس سيسّهل مسعى أولمرت الداعي لفرض هذا الانفصال دون الحاجة إلى مثل هذا التفاوض. ولكن لذر الرماد في العيون قد تكون التسوية الداخلية بين حزبي كاديما والعمل، في حالة شارك الأخير في الحكومة، أن يتم فتح قناة تفاوضية مع الرئاسة الفلسطينية عبر منظمة التحرير الفلسطينية. سيكون هدف هذه “المفاوضات” ليس التفاوض وإنمّا إقناع الجانب الفلسطيني بضرورة القبول بالرؤية “الإسرائيلية” للفصل أُحادي الجانب كي تنهار هذه “المفاوضات” لاحقاً وتدّعي الحكومة “الإسرائيلية” أن إخفاقها في التوصل إلى تسوية بالتفاوض يعود إلى تعنّت الجانب الفلسطيني.

بالتأكيد ستحاول أطراف في هذه الحكومة ومن أحزاب اليمين من خارجها تأجيج المشاعر الفلسطينية خلال فترة “التفاوض” من أجل استثارة عمليات تفجير فلسطينية في العمق “الإسرائيلي”. إذا وقعت مثل هذه العمليات، وعلى أغلب الظن أنها ستقع في فترة قادمة، ستتحلل الحكومة “الإسرائيلية” من عبء “التفاوض”، وسيُغطي حزب العمل “عورته” ويلحق بكاديما لفرض الفصل “إسرائيليا”.

ولكن هل سينجح هذا السيناريو عند التنفيذ، خصوصاً وأن الائتلاف الحكومي “الإسرائيلي” القادم سيبقى يعاني من الهشاشة في موضوع الفصل أُحادي الجانب إذا ما تضمنت التشكيلة الحكومية أيّاً من الأحزاب الدينية؟ بالتأكيد سيكون هناك معارضة من الأوساط اليمينية والمستوطنين. ستكون هذه المعارضة أقوى وأعنف في الشارع من تلك التي حصلت عند إخلاء مستوطنات قطاع عزة، وذلك لاختلاف حجم ووضع وأهمية الضفة وشدة تداخلها مع “إسرائيل” من ناحية، ولقوة المستوطنين المنتشرين فيها مع حلفائهم من اليمين من ناحية أخرى.

سيستخدم هؤلاء مختلف الوسائل لمنع تفكيك مستوطنات في الضفة، وسيعتمدون على عمليات التفجير الفلسطينية لإشاعة الخوف داخل أوساط المجتمع “الإسرائيلي”. قد يؤدي ذلك إلى انهيار الحكومة، وقد يؤدي إلى تعزيز موقفها. الأمر سيعتمد على كيفية تصرّف الأغلبية “الإسرائيلية” حينئذٍ، وعلى موقف الأطراف الدولية، وخاصة الإدارة الأمريكية.

لم أتطرق كثيراً للموقف الفلسطيني بهذا الخصوص لأن إفقاد نفسه لخيارات كان من الممكن أن تكون مُجدية في مواجهة مُخطط الفصل “الإسرائيلي”، مثل اللجوء إلى حلّ السلطة، يحدّ من قدراته التأثيرية بشكلٍ ملموس، ويجعله خاضعاً لرحمة السياسة “الإسرائيلية”. ستقود المُناكفة السياسية داخل الساحة الفلسطينية بسبب فوز حركة حماس الانتخابي أصحاب استراتيجية التفاوض المستمر والدائم مع “إسرائيل” إلى القيام بمحاولات مستميتة لإحياء العملية التفاوضية مع الحكومة “الإسرائيلية” القادمة. ولكن هذا التفاوض إن حصل، سيصطدم بالسقف العالي لمخطط الفصل “الإسرائيلي”. ولفقدانهم أي عامل ضغط على الحكومة “الإسرائيلية” لن يتمكن المفاوضون الفلسطينيون من تحقيق أي اختراق يُذكر في هذا المجال. بل بالعكس، سيتعقد الوضع الداخلي الفلسطيني بسبب المشاحنات الداخلية بين حركتي فتح وحماس. ستقوم حركة حماس في البداية باتبّاع سياسة الانتظار فيما يتعلق بعملية التسوية السياسية، وذلك لإغراق حركة فتح في مفاوضات جديدة عدمية مع “إسرائيل”، ثم تقوم الحكومة الفلسطينية (هذا إن كانت لا تزال موجودة) بتسجيل موقفها الرافض لاحقاً، ولكن دون أن تقف حائلاً أمام قيام الحكومة “الإسرائيلية” بتنفيذ مخطط الفصل إن استطاعت لذلك سبيلاً.

المهم في الشأن الفلسطيني خلال الفترة المُقبلة لن يكون ناجماً عن تداعيات الخطة “الإسرائيلية” للفصل أُحادي الجانب، وإنما عن إشكاليات المناكفة الداخلية بين حركتي فتح وحماس، بين الرئاسة والحكومة، وفي المجلس التشريعي، وداخل المؤسسات العامة. سينشغل الجميع في الساحة الفلسطينية بأعباء التوتر الداخلي، وسيتركون “إسرائيل” تقرّر المصير الفلسطيني، وبعدما يتم ذلك قد يقرّر الفلسطينيون القيام بانتفاضة جديدة.

للأسف، الفلسطينيون أيضاً غارقون في مسارهم الخطّي أُحادي الجانب، يتقلبون ما بين التفاوض حيناً والانتفاضة حيناً آخر. لا تفكير خلاّق ببدائل أُخرى أكثر نجاعة. مواجهة مخطط الحكومة “الإسرائيلية” يتطلب من الفلسطينيين فحص خيار حلّ السلطة بشكلٍ جدّي جداً لأنه، باعتقادي، الخيار الأنجع للمواجهة الفلسطينية. “إسرائيل” تتصرف في المصير الفلسطيني وكأنها تملكه لأن السلطة الفلسطينية متشبثة بوجودها المُعول عليه “إسرائيلياً” لتنفيذ خطة الفصل. هذه الخطة لا فائدة “لإسرائيل” منها إلاّ بوجود سلطة فلسطينية تقبل أن “تنحشر” في المعازل وخلف الجدار. هل سيقتنع الساسة الفلسطينيون بذلك؟ ربما ليس الآن، ولكن قد يتم ذلك بعد قيام “إسرائيل” بالتنفيذ. سيكون السؤال حينها: هل فات الأوان أم أن التسوية المفروضة لن تكون حلاً مقبولاً، وستبقى المنطقة تعيش في خِضم الصراع؟!

التعليقات