31/10/2010 - 11:02

لبنان له سحره../ سليم الحص*

لبنان له سحره../ سليم الحص*
لبنان، هذا البلد الصغير، منّ الله عليه بموقع أكبر من حجمه الجغرافي والسكّاني. فإذا به محطّ ضغط وتجاذبات من كل جانب تحرمه نعمة الاستقرار وتجعل منه مرآة لاضطرابات المنطقة ومعبراً لها.

إننا نردّد القول: إن الدولة العظمى أمريكا قد لا تريد شيئاً من لبنان ولكنها تريد الكثير الكثير عبره. فهي عبر لبنان تضغط على الفلسطيني والسوري والإيراني والسعودي وسواهم. ففي لبنان نحو ثلاثمائة إلى أربعمائة ألف لاجىء فلسطيني، وفيه حلفاء نافذون لسوريا وإيران، وكذلك للمملكة العربية السعودية وسواها من الأقطار العربية. وقدر لبنان أن يكون في جوار دولة العدوان “إسرائيل”، له حدود مشتركة معها، فتستغلّ “إسرائيل” هذا الواقع لتبعث برسائلها عبره لأقطار المشرق العربي كافة وكذلك لدول العالم أجمع، خصوصاً بعد أن أضحى هذا البلد الصغير موضع متابعة من الأمم المتحدة بقرارات متتالية.

ويؤهل لبنان لهذا الموقع الفريد، الذي لا يُحسد عليه، ما يتمتع به من حريات جعلت لصحافته وسائر وسائل إعلامه صوتاً مدوياً في العالم العربي والمغتربات اللبنانية، وكذلك كان للانتشار اللبناني في شتى أصقاع العالم دور في تعميق أسباب التواصل بين لبنان والعالم الخارجي فإذا بكل ما يطرأ داخل لبنان ينعكس بأصدائه على الصعيدين الإقليمي والدولي.

إلى كل ذلك يحتضن هذا البلد الصغير نظاماً مصرفياً أكبر كثيراً من حجمه وكذلك بعض قطاعات الخدمات التي يستفيد منها الجوار العربي، وهي من العوامل التي جعلت لبنان محجّة لكثير من الأشقاء العرب حتى في ظروف عصيبة مرّ فيها هذا البلد الصغير. فإذا بسيل السياح والزائرين لا ينقطع حتى في أيام الشدّة، ودفق الأموال على لبنان لا يتوقف. نشهد أنموذجاً من هذا الواقع هذه الأيام في هبوط عشرات الألوف من الضيوف العرب والمغتربين اللبنانيين على هذا البلد فيما هو يواجِه أزمات أمنية متنقلة بين ربوعه، وفيما ساسة لبنان سادِرون في سجالات عقيمة وعبثيّة حول الوضع الحكومي، وفيما البلد يفتقد وجود سلطة فاعلة منذ أمد غير وجيز.

يطيب للبنانيين أن يقولوا إن لبلدهم سحره. إنه ساحرٌ بما يتمتع به من مناخ معتدل أخّاذ وما يتميّز به من طبيعة خلاّبة وبما يحتضِن من جبال وسهول ووديان وما يزخر به من خضرة ومياه ومناظر باهِرة وما ينبسط على امتداده الغربي من شاطىء جميل. كل هذا إلى حسن وفادة اللبناني وانفتاحه ودماثته وبراعته في خدمة الوافدين. قِيل عن لبنان إنه سويسرا الشرق وقِيل عن بيروت إنها باريس المنطقة.

لو تعرّض بلد آخر لما تعرّض ويتعرّض له لبنان هذه الأيام من ضغظ وتدخّلات وتجاذبات لتصدّع وربما تشظّى. أما لبنان، فعلى الرغم من عوامل الشرذمة والفرقة التي تمزّق شعبه، فإنه بقي صامداً متماسِكاً، واستمرّ اقتصاده في طريق النمو ولو بمعدلات خفيضة، وبقيت موجودات قطاعه المصرفي تزداد ولو بوتيرة وئيدَة، وبقيت القيم العقارية فيه ترتفع ولو على وجه متواضِع نسبياً.

ومما ساعد على وجود هذه المفارقة الاغتراب اللبناني الواسع الذي بقيَ بمنأى عن كل السلبيات التي طبعت أوضاع لبنان الداخلية، وكذلك تصاعد حركة الهجرة بين الشباب اللبناني سعياً وراء الرزق الحلال في الخارج، وخصوصاً في الجوار العربي. فبدلاً من أن يلتحقوا بصفوف العاطلين عن العمل في بلدهم آثر هؤلاء الفِتيَة مغادرة أرض وطنهم إلى حيث يستطيعون أن يجنوا ما يكفي للقيام بأود معيشتهم وإمداد ذويهم في لبنان بما يسعفهم على تحمّل موجبات المعيشة ولو في حدودها الدنيا. هكذا كانت الحصيلة أزمة وشِدّة وضيقاً داخل لبنان وإنما دون الانهيار والتفكّك.

ومما ساعد على كل ذلك تفجّر فورة نفطيّة غير مسبوقة بارتفاع أسعار النفط إلى أضعاف ما كانت عليه قبل أشهر معدودات، فكان من شأن ذلك تعزيز الفوائض المالية التي تتمتّع بها أقطار عربية منتجة. كانت فرصة للبنان كي يقطف من ثمار هذه الفورة أكثر كثيراً مما كان لولا الظروف الأمنية والسياسية غير المستقرة التي سادت أوضاعه في هذه المرحلة. لا ريب في أن اللبنانيين فوّتوا على أنفسهم، بفعل ساستهم وانقساماتهم، فرصة ثمينة للغاية.

صحيح أن للبنان سحره. وسحره في هوائه وطبيعته ومياهه وساحله، وكذلك في مرافقه المصرفية والخدماتية، وفوق كل ذلك في بشره، في الإنسان الذي يزخر حيوية وأُنساً واستعداداً للتكيف والتغلّب على الصِعاب والتحديات.

ولكن لمثل هذا السحر حدوداً. ففي مقابل هذا السحر ما يُعاني هذا البلد الصغير من بلاء بوجود الطبقة السياسية التي تتحكّم بحياته العامة وبالتالي بمصيره على كل صعيد.

هذه الطبقة السياسية برهنت وتبرهن كل يوم أنها لا تعرف للمسؤولية العامة معنى. فهي غارِقة في سجالات عقيمة أخّرت انتخاب رئيس للجمهورية، حتى بعد التوافق على شخصه، شهوراً طويلة، ثم أعاقت تشكيل أول حكومة في العهد الرئاسي الجديد في مماحكات حول جنس الملائكة، وللمرة الأولى يَغدو تأليف الحكومة رهناً بموافقة كل رئيس كتلة سياسية على كل مقعد وزاري سواء لجهة التوزيع المذهبي والطائفي والانتماء السياسي أو لجهة الأسماء المقترحة لشغله. هذه بِدعَة لم يسبق لها نظير. فالمألوف أن يقوم الرئيس المكلّف بتشكيل حكومة جديدة ويجري مشاورات مع التكتلات النيابية ثم يعكف على تشكيل الحكومة بالتفاهُم مع رئيس الجمهورية آخِذاً في الاعتبار كل ما سمع خلال المشاورات من آراء ومواقف وأفكار. ثم تصدر التشكيلة الحكومية وليتحمّل كل فريق مسؤولياته حيالها.

للبنان سحره. وهذا السحر أنقذه حتى اليوم من عاقِبة ألاعيب السياسيين ومهازِلهم وعربداتهم، ولكن إلى متى يستمر هذا البلد في تمتّعه بهذه الحظوة ويبقى بمنأى عن المحظور الذي ينذر بعواقب تهدّد المصير الوطني في الصميم؟

وبقدر ما نحمّل الطبقة السياسية في لبنان وِزر هذا الواقع الخطير بقدر ما نتطلّع إلى انتخابات نيابية مقبلة تُجرى بناء على قانون جديد يكفل تجديداً جذرياً في الطبقة السياسية وبالتالي الحياة السياسية. ولكن أنّى لنا بمثل هذا القانون وسلطة التشريع في يد من لا مصلحة له في التغيير، نظراً إلى أن أي تغيير حقيقي لن يكون إلا على حسابه؟
"الخليج"

التعليقات