31/10/2010 - 11:02

لماذا ظهر الزرقاوي مؤخرا؟/ د.يوسف مكي

لماذا ظهر الزرقاوي مؤخرا؟/ د.يوسف مكي
أبو مصعب الزرقاوي، الأردني الجنسية من الشخصيات الأسطورية، التي نسجت حولها عشرات القصص، ليس أقلها أنها شخصية وهمية، وأنها أحد التعابير الحقيقية عن أزمة الاحتلال. قيل عنه إنه شخص سبق له أن زار السجون الأردنية، ومكث فيها لفترة طويلة، وإن ذلك كان بسبب قيامه بعمليات تفجير ضد بعض مواقع الدولة. وقيل إنه تحالف مع ِأكراد مسلمين في شمال العراق، يقودهم كاريكار، وإنه قتل ِأثناء قصف أمريكي على مواقعهم، وقيل إنه أصيب في معركة مع الأمريكيين بمحافظة الأنبار في العراق، وإنه فقد إحدى قدميه وأصبح معوقا. وقيل أيضا إنه شخصية وهمية من نسيج الأمريكيين، وليس له وجود. وإنهم أرادوا من خلال الترويج لاسمه استغلال ذلك في عمليات قذرة يذهب المدنيون ضحايا لها، وتنسب له قوات الاحتلال تنفيذ تلك العمليات... وقيل وقيل...

والواقع أنني شخصيا تأثرت بكثير من تلك الأقاويل، خاصة وأن بعضها جاء في بيانات صادرة عن أطراف في المقاومة العراقية. وحتى التسجيلات الصوتية التي كانت تظهر بين فينة وأخرى، عن الزرقاوي، والتي كان يحرض فيها على تسعير الفتنة الطائفية كان البعض يعتقد أنها جزء من عملية التلفيق والتدليس التي تمارسها إدارة الاحتلال في بلاد الرافدين. واستمر الحال كذلك حتى ظهر الزرقاوي بنفسه، في فضائية الجزيرة، بالصوت والصورة، في حركات استعراضية حاملا رشاشه، ومحرضا، كما هي عادته، على الفتنة.

وكانت الملاحظة الأولى على خطابه، هو عدم تناغمها مع الخطاب السياسي، الذي يطرحه أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. حيث يلاحظ في خطابات بن لادن والظواهري موقف سياسي متوازن، على الأقل في الفترة الأخيرة، لعل مبعثه تراكم الخبرة، واستيعاب فن إدارة التحريض بطريقة أكثر فعالية، في حين يعادي خطاب الزرقاوي كل العراقيين، ولا يستثني منهم سوى مجموعته. وذلك يتناقض مع خطاب الظواهري الأخير الذي ذكر فيه خسائر الأمريكيين في العراق، وأكد على دور القوى "الجهادية" التي ليست لها علاقة بالقاعدة في تلك العمليات.

النقطة الأخرى في ظهور الزرقاوي، هي حرصه، كما أبرزت ذلك الصور أن يبدو وكأنه يسيطر على أجزاء شاسعة من منطقة الأنبار. وتحمل تلك الصور معنيين، الأول أنه يحاول أن يقنع الآخرين، بأن فاعلية مقاومته على الساحة العراقية مكافئة من حيث الحجم والنوع لفاعلية عناصر المقاومة الأخرى، إن لم تكن أقوى منها بكثير. والثاني، أنه فعلا يعيش واقعا مأزوما اضطره للخروج عن المألوف، رغم مخاطر ذلك، والبروز في منطقة مكشوفة، بل وتحديد عنوان تلك المنطقة. وذلك يعكس قلقا وخشية من تطورات قادمة على الساحة العراقية، ربما يكون هو ومجموعته أحد الضحايا الرئيسيين لنتائجها. فما هي تلك التطورات، وما علاقتها بظهور الزرقاوي، بالطريقة المتحدية، رغم المخاطر والتبعات المترتبة على ذلك؟.

الإجابة على هذين السؤالين، تجرنا للتمييز بين برامج قوى المقاومة في داخل العراق، في مواجهتها للاحتلال. وهي قوى يمكن أن نقسمها إلى ثلاثة أجزاء، ليس في عدد تشكيلاتها، ولكن في توجهاتها وبرامجها السياسية ورؤيتها لمستقبل العراق..

الأولى، هي مجموعة الزرقاوي، التي تتسمى بـ قاعدة بلاد الرافدين، ولا يستهدف برنامجها تحرير العراق من الاحتلال. وقد جاء ذلك بوضوح في خطاب الزرقاوي الأخير، حين قال إننا كنا نبحث عن الأمريكيين، وهاهم جاؤوا لنا، ومكنونا منهم. وهو يستنكر أن يتوقف المجاهدون عن القتال ويتجهوا إلى العملية السياسية، باعتبار ذلك خروجا عن أهداف الجهاد. بمعنى أن الهدف هو شن حرب استنزاف مستمرة، يبدو هدفها عدمي، وغير واضح.. إذ من غير المنطقي أن تلحق القاعدةِ، تحت أي ظرف، هزيمة عسكرية بحق الولايات المتحدة الأمريكية. إنها حالة احتقان، تجيب فصائل القاعدة عليها بردود أفعال منفعلة. ومشروعها استشهادي، وهو لاستغراقه في هذا النهج، تبنى مواقف تكفيرية بحق القوى التي تتبنى مواقف مغايرة لرؤيته.

القوى الثانية، تكتيكية في مواجهتها للمحتل. وتستهدف غايتين، إما الضغط على قوات الاحتلال الأمريكي لتحقيق مكاسب ذاتية، من خلال حصولها على حصة أكبر في العملية السياسية، أو أنها تعمل لحساب قوى خارجية أخرى، تدير معركتها مع الإدارة الأمريكية على أرض العراق. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى القوى المتحالفة مع إيران، فهذه القوى تحدد مواقفها مع إدارة الاحتلال، بناء على درجة اقتراب أو تصادم الجمهورية الإسلامية مع الإدارة الأمريكية. وقد شاركت منذ الأيام الأولى للاحتلال في العملية السياسية، ولكن حين طرحت إدارة بوش قضية الملف الإيراني النووي بقوة، تباعدت المسافات بين هذه القوى وإدارة الاحتلال، وبلغت في بعض الحالات حد التصادم المسلح، كما هو حادث في بعض المدن الجنوبية العراقية. وعلى هذا الأساس، فإن مقاومة هذه القوى للاحتلال الأمريكي يغلب عليها الطابع الموسمي، وهي مرهونة باتجاه بوصلة العلاقات الأمريكية - الإيرانية.

القوى الثالثة، وهي المقاومة العراقية التي يشكل الجيش العراقي عمودها الفقري، وتمثل حسب بعض التقديرات 80% من عناصر المقاومة. وتضم تشكيلات ومنظمات عديدة، في مقدمتها جيش محمد وكتائب ثورة العشرين، والجيش الإسلامي، وفصائل أخرى... وهذه المجموعات تستظل تحت ما هو معروف بمجلس شورى المجاهدين. وتدعم هذه القوى مجموعة من التنظيمات المدنية داخل العراق وخارجه، وتضم أحزاباً ومنظمات قومية وإسلامية. ويحدد برنامجها السياسي هدفها في الوصول إلى طرد قوات الاحتلال من العراق. وإقامة نظام سياسي ديمقراطي تعددي. وترفض هذه القوى جملة ما رشح من مؤسسات وترتيبات وقوانين صدرت إثر احتلال العراق. وتتمسك بعدم شرعية الاحتلال، وترفض المشاركة في العملية السياسية في ظل وجوده.

لكن هذه القوى تعلن صراحة أن هدفها ليس الاستمرار في محاربة الأمريكيين. إن هدفها يقتصر على الاستمرار في العمل المسلح من أجل تحرير العراق، وتعويضه من قبل الأمريكيين عن الخسائر التي لحقت به جراء الاحتلال. ولا تمانع من إقامة علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة بعد رحيل جنودها عن بلاد الرافدين. إن برنامجها هو مشروع حياة وليس استشهاداً. بمعنى أن الشهادة ليست غاية نهائية، وليست هدفا مستقلا قائما بذاته. ودعاة مشروع تحرير العراق، يدركون استحالة إلحاق هزيمة عسكرية شاملة بالقوات الأمريكية، نتيجة للقدرة التدميرية الهائلة التي تمتلكها هذه القوات. ويستحضرون في هذا الاتجاه، أن جميع الهزائم التي مني بها الاستعمار التقليدي في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية هي هزائم سياسية. تتصاعد الخسائر والكلفة في صفوف المحتل، وتتسع دائرة المعارضة للحرب، وتتعمق الأزمة الاقتصادية في المركز، ويهرب الجنود من ثكناتهم، وعندها يدرك المحتل أنه لا قبل له سياسيا بالاستمرار في الحرب. ويقرر الخروج من البلاد التي احتلها، بعد عمليات تفاوضية يحكم نتائجها توازن القوى على الأرض ومستوى الدعم والتأييد الذي تلقاه المقاومة من جهة، ومستوى قوة المعارضة في البلد الأم للمحتل.

ويدرك دعاة التحرير، ورفض المحتل، أن عملية التحرير تمر بمرحلتين رئيسيتين: مرحلة حرب العصابات ومرحلة حرب الشعب. في العراق، في منطقة الوسط بالذات، لم يمر المقاومون بالمرحلة الأولى من حرب التحرير، وانتقلوا مباشرة إلى حرب الشعب دون حاجة لمرحلة حرب العصابات، لكنهم في مناطق أخرى، في الشمال والجنوب، حيث تتواجد القوى السياسية التي رفدت المحتلين منذ وطئت أقدامهم بلاد الرافدين، فإنهم لا يزالون في المرحلة الأولى، من حرب التحرير، حيث مازالوا يستندون على حرب العصابات. إن برنامج التحرير، بالنسبة لهم يكتمل حين تنتقل المقاومة في الجنوب من حرب عصابات إلى حرب للشعب بأسره. إن الإشارة إلى هذه النقطة تبدو مهمة جدا لإدراك الفارق في الخطاب السياسي للزرقاوي والمقاومة. فبينما يحرض الأول على الطائفية وقتل "الرافضة" تنطلق المقاومة العراقية من أن العراق لكل العراقيين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والإثنية. وشرط تحقيق برنامجها السياسي هو الوحدة الوطنية العراقية، ليتحول الحال في المناطق الفسفسائية من حرب العصابات إلى حرب الشعب، باعتبار تحقيق ذلك هو لحظة التحرير الحقيقي للعراق.

من هنا نفهم لماذا ظهر الزرقاوي مؤخرا. إن هناك خشية لديه، أمام اعتراف الأمريكيين بورطتهم في العراقِ، وأمام التصريحات التي بدأت تتوالى مشيرة إلى احتمال انسحاب أمريكي مبكر من العراق، من أن ينتهي دوره ودور جماعته داخل العراق، بالانتصار السياسي للمقاومة العراقية. وقد أكدنا أن ذلك لن يتحقق إلا بتضافر جهود العراقيين... كل العراقيين، بكافة طوائفهم الدينية والإثنية في عملية تحرير العراق. ولا شك أن ذلك سيكون بالضد من مشروع الاستنزاف للأمريكيين الذي يطرحه الزرقاوي. وإذا ما تحقق ذلك فليس أمام الزرقاوي إلا واحد من أمرين، إما مقاومة إرادة العراقيين، أو الخروج نهائيا من العراق، وأحلاهما مر لا يرغب فيه، ولا يتحمل مواجهته، ولذلك يخرج علينا الآن، في خضم الحراك الحاسم نحو طرد المحتل، ليؤكد حضوره، وليعلن على طريقته، فشل أي مشروع سياسي يستهدف طرد صيده الأمريكي الثمين من العراق.. لكن الأيام القادمة سوف تحدد بما لا يقبل الشك، أي الخيارات الثلاثة هو القابل للتطبيق، وإلحاق الهزيمة الحقيقية بالأمريكيين.

التعليقات