31/10/2010 - 11:02

لن نسمح أن يتراجع بنا التاريخ../ د. نادرة شلهوب-كيفوركيان*

لن نسمح أن يتراجع بنا التاريخ../ د. نادرة شلهوب-كيفوركيان*
أكتب، لا لمجرّد رفض الصمت في ظلّ الاحتراب الفلسطينيّ الداخليّ، وشعوري بالألم والأسى الشديدين لما في الساحة الفلسطينيّة من عنف وفقدان أليم.

أكتب، لا لأحدّثكنّ/م فقط عن أهمّيّة الدور الخاصّ الذي عليَّ أن أقوم به، أقوله، أحاربه، أكتبه كامرأة فلسطينيّة، لمنع جنون الاقتتال؛ بل لأعبّر عن رفضي الشديد لأن ننتحر بأيدينا. وكيف يمكن لي أن أصمت كامرأة فلسطينية؟! كيف أصمت عند رؤية أبناء وبنات شعبنا يقتلون، وأسمح للفكر الذكوريّ والذي لا ترتخي أيديه عن الزناد والتسلّح العقيم أن يهمّش ميراثنا في الدفاع عن الحقّ، وتاريخنا الذي رفض- بكلّ مهارات المقاومة الإنسانيّة والنضال المتواصل- أن يتعايش مع الاحتلال ويقبل الشتات واللجوء وإرهاب الصهيونيّة كواقع "قابل للتقبّل"؟!

كابنةٍ لهذا الوطن السجين؛ كنسويّة فلسطينيّة؛ كأمّ لثلاث بنات يفتخرن بفلسطينيّتهنّ؛ كابنةٍ لأمّ وأب عاشا النكبة بشتاتها المستمرّ؛ كمفكّرة درست جرائم أصحاب القوّة رافضةً عنف الدولة اليهوديّة وهدمها لبيوتنا وآمالنا؛ كباحثة كتبت ضدّ عسكرة التعليم وعنجهيّة مهارات إخراس المقاومة لدى الدولة الصهيونيّة؛ كمعالِجة لقضايا العنف الأسريّ، وناشطة ورافضة لجرائم قتل النساء، والاعتداء على الأطفال... كلّ هذا يمنعني من قبول الصمت لغةً.
إنّ هُويّتي النسويّة، والتي اتّسمت بالنضال، ترفض أن يُنظر إليّ كأقلّـيّة في لعبة القوى على أرض وطني، أقلّـيّة لا صوت ولا حول لها، وكأنّني دخيلة أو أقلّـيّة منفيّة غير مدعوّة إلاّ لأن تتقبّل، تحبّ، تحوي، تعالج، ومن ثَمّ تصمت إلى أن يقرّر أصحاب الفكر الإجراميّ سياسات العمل. أنا ابنة فلسطين، ولذا فمن واجبي وحقّي أن أقول لجميع المسيئين لميراثي الفلسطينيّ: لن أسمح لكم بنسف تاريخي وقضيّتي وهُويّتي ولغتي وأخلاقيّاتي النضاليّة، بمسلكيّاتكم المنحرفة.

يتساءل الكثيرون من حولي وأتساءل أنا: كيف... كيف وصلنا إلى هذا الوضع المزري؟
من الواضح لي أنّ صناعة الذلّ الإنسانيّ الذي عانى منه الشعب الفلسطينيّ، وتصنيع القهر والقمع، أصبحا أفضل سلاح في الحروب الحديثة. لقد كان- وما زال- تصنيع القهر فنًّا ومهارة لدى المستعمر والمحتلّ يدرَّس في أفضل الجامعات، ويُسند بلغة القانون وحقوق الإنسان؛ بيد أنّي أرفض أن يكون عِلمًا نذوّته ونستخدمه وندرّسه للأجيال الفلسطينيّة القادمة.

وأتساءل متألّمة: هل ممارسة العنف وإجرامنا الواحد/ة ضدّ الآخر/الأخرى أصبح لغة جديدة تعلّمناها من الإمبرطوريّات الكولونياليّة والرأسماليّة القاهرة -كأمريكا وإسرائيل-... لغة للتحرّر؟! هل يطلق كلّ منّا ضدّ الآخر الضغط والكرب المدفون والكبت العاكس لسنوات الشتات والفقدان الفلسطينيّ؟!

إذا كان الأمر كذلك، فأنا أرفض هذه اللغة. فكما حاربت عنف القوى الصهيونيّة ضدّنا، وكما رفضت العنف ضدّ المرأة، وتظاهرت حين قُتلت نساؤنا، وعملت على حماية الفئات المستضعفة من الاغتصاب، والتحرّش الجنسيّ والإجحاف الاجتماعيّ... ما زلت أومن بالمبادئ ذاتها القائلة: لا للعنف...

بإمكاني تفسير ما يجري بالنظريّات التي أعلّمها لطالباتي وطلاّبي. بإمكاني القول إنّنا ذوّتنا قهرنا، وإنّنا تعبنا من الاحتلال، وإنّ طاقاتنا تشرذمت وذابت حيث حطّمَنا الخنقُ الاقتصاديّ الإسرائيليّ والأمريكيّ. أُدرك أنّ استخدام القاهر والمحتلّ للعنف بغية إخضاع وقهر فرص الحياة للفلسطينيّ أتعبنا، ولكنّي أرفض- وبكلّ لغة يمكن الرفض بواسطتها- قبول قتل أحدنا للآخر.
رغم الاحتلال والعسكرة والحرب النفسيّة... لا أقبل التخندق...

ما حاولت الحركة الصهيونيّة عمله هو تركيع الآخر الفلسطينيّ وإلحاق هزيمة نفسيّة ومادّيّة به، من حيث تدمير قدراته وإرادته من الأساس، لتجعله يستسلم ويقبل كلّ شروط المحتلّ... حيث يستخدم المستعمِر والمحتلّ العنف لإخضاع وقهر فرص الحياة لدى هؤلاء الذين يحتلّهم ويستعمرهم.

يذكّرنا المفكّر فرانس فانون أنّ الاغتراب الاجتماعيّ والتهميش والفقر هم المسؤولون عن العديد من الأمراض الاجتماعيّة والنفسيّة في زماننا. كما أنّ الذلّ اليوميّ، والإساءة إلى الشبكة الاجتماعيّة والتواصل الاجتماعيّ، وتناقص فرص العيش الكريم، والإحساس العميق بالغربة الاجتماعيّة التي يشعر بها كثير من الشباب، كلّ هذا أفضى في بعض الأحيان إلى فقدان البوصلة المسيرة أخلاقيًّا. ويذكّرنا الوضع في العراق والسودان وأفغانستان بأنّنا إن لم نوقف شلاّل الدماء فسوف يأتي يومٌ يُقتل فيه أبناؤنا وبناتنا، ويغتصب أهلنا، ونستمر بالسكوت...

إنّ حالة الاحتلال التي نعيشها، والاستعمار السياسيّ الاقتصاديّ، وعنصريّة العالم الذي رفض التعامل مع عدل القضيّة الفلسطينيّة بمعايير إنسانيّة، كلّ هذا وفّر فرصة ذهبيّة لكلّ المنحرفين والمرضى النفسيّين والفئات الباحثة عن مصادر قوّة بأيّ ثمن، وفّر الفرصة لإشباع رغباتهم من إجرام وتخويف وترهيب. ومع بشاعة العنصريّة التي عشناها ونعيشها، لا يمكننا أن نصل إلى وضع نبرّر فيه القتل أو ندعم رواية القاتل. لا يمكن أن نقبل سلب حقّ الحياة والعيش الكريم.

وماذا تفعل الدولة اليهوديّة بنا في هذه الأيّام غير التهكّم والتسلّي على آلامنا؟! تقوم الدولة اليهوديّة باستغلال ظروف الاقتتال الداخليّ، لا لتؤكّد على رؤيتها العنصريّة والصهيونيّة ولا لتزيد من التحليلات الأمنيّة الاستشراقيّة لنا فحسب، بل لتتعامل معنا كعبيد أعتقهم المستعمِر... لا لرغبة المستعمر في إبقائهم على قيد الحياة، أو -كما ينعكس في الحال الفلسطينيّ- لا لإنسانيّة إسرائيل ورغبتها في تفهّمنا ومساعدتنا ومعالجتنا في مستشفياتها (على سبيل المثال)، إنّما للاستمرار في استغلالنا النفسيّ الاجتماعيّ والاقتصاديّ، كيما تبقى أيدينا "العاملة الرخيصة" تخدمهم، وأجسامنا الهزيلة جسرًا لـِ "ديمقراطيّتهم"، وكيما نصل إلى وضع نرضى فيه ونختار، بحرّيّةكاملة ، استعدادنا للعيش كعبيد.

وتتفنّن القوى المصهينة والمهيمنة في تصنيع الإرهاب غير المرئيّ- لكن المحسوس-، وفي إجراء غسيل دماغ لاستعبادنا "الحرّ"، ولكن هذه المرّة بدعم من أبنائنا المتحاربين. في هذا الوضع، نشابه الفئات السوداء التي وصفها المفكّر المارتينيكيّ الجزائريّ فرانس فانون بـِ "وجوه سوداء وأقنعة بيضاء"، لنتحوّل إلى عبيد متعاونين من الداخل، بل إلى آليّة المحتلّ فنغدو -كما فعلنا في الأيّام الأخيرة- أكثر قسوة وعنصريّة من المستعمِرين والمحتلّين.

والسؤال هو: كيف يمكن للقوى الاجتماعيّة والسياسيّة مناهضة الاحتلال وسياساته الماكرة، دون المسّ بحصانتها الذاتيّة الأخلاقيّة؟ وما مفهوم المقاومة في هذا الوضع المؤلم؟ أو بالأحرى: كيف أرى المقاومة من منظوري النسويّ الفلسطينيّ؟


المقاومة من منظوري النسويّ:

المقاومة هي الارتقاء إلى مستوى الرؤية القوميّة الثقافيّة الملائمة لهُويّتنا التاريخيّة النضاليّة ضدّ الاحتلال والقمع؛ الارتقاء إلى مستوى إدراك تعقّد الأوضاع الداخليّة والإقليمية والعالميّة، للوصول إلى حوار فلسطينيّ يتحدّث بجوهر قضيّتنا. المقاومة هي رفض الانحطاط السياسيّ، لأنّنا بهذا نمنع التشرذم والانفصاليّة.

المقاومة تتطلّب التفكير في السبل التي لا تقنع بأن تتيح لنا استعادة الإنصات إلى أصالة نضالنا وجماله وعمقه فحسب، إنّما المقاومة هي ما يمنع تحويل ذاكرتنا الجماعيّة إلى ذاكرة منسيّة، وذلك أنّ ما يريدوننا أن ننساه هو محور تاريخنا الفلسطينيّ الشخصيّ الذي يرفض الصمت والتخندق في غياهب الاحتراب والاقتتال الداخليّ.

ما أقوله، كمفكّرة نسويّة، أنّه لا يمكن للمقاومة والثورات أن تنجح إن لم يرافق الوعيَ الوطنيَّ فيها الوعيُ الاجتماعيُّ. لا يمكن أن نقبل بنضال لا تسانده مقاومةٌ للعنف والقتل والاحتراب الداخليّ. ففسيفساء مقاوماتنا وثراؤها لا يمكن أن يُقبرا في ثنايا إسقاطات الاحتلال وقمع ذكوريّتها. وإن لم يرافق المقاومةَ الوعيُ الاجتماعيّ لقدسيّة وأهمّـيّة المحافظة على نسيجنا وحميميّتنا الاجتماعيّة ومبادئنا الإنسانيّة الرافضة للعنف، فعندها سنصل إلى احتلال أشدّ إرهابًا، ألا وهو احتلال النفس والعقل والتاريخ والقلب الفلسطينيّ، القلب الذي يأبى إلاّ أن ينبض حبًّا لوطنه، لثراه الغالي وتاريخ نضاله ومقاومته. فالمقاومة لا تُبنى على أسس من الإفلاس المبدئيّ، الفكريّ، الضميريّ المستقبليّ، الإنسانيّ والثقافّي... وذلك أنّ هذا الإفلاس القيميّ والجهل والعمى الطوعيّ سوف تضرب بعرض الحائط مستقبلَ شعبنا، وتزيد من تهميش شرائح كاملة في مجتمعنا، فضلاً عن إقصاء تاريخ حافل بالمقاومة الأبيّة لا بانحراف الأحداث والجرائم المنظّمة والتي أطالب أن تتوقّف حالاً.

ويبقى شاخصًا أمامي السؤال: كيف سأعيد ذاكرة التاريخ الفلسطينيّ لابنتي الصغيرة، بعد هذه الأحداث الدامية؟ بِمَ سأجيب أمّي التي عايشت النكبة وفقدت أطفالها عندما تسألني "ليش يَمّا بنقتل بعضنا"؟! وكيف سأنظر إلى نفسي، أنا كإنسانة أحبّت كلّ ما في فلسطينيّتها من عدل وإنسانيّة وطاقات صمود؟! وكيف سننظر إلى الغد، ونبرّر سلوكيّاتنا أمام أولادنا وبناتنا؟! كيف سنواجه المستقبل؟! كيف نقبل تحميل أكتافهم المثقلة الجرائم المخزية والمخجلة واللا إنسانيّة، والتي اقترفناها في هذه الأيّام الحزينة؟!

كيف نمزّق مظاهر الصمت والمعاناة الأليمين؟

إنّ أوضاع فلسطيننا الحاليّة لا يمكن وضعها بمعايير ومقاييس الوطنيّة القوميّة المعسكرة، بل بمعايير الرؤية الإنسانيّة التي تؤكّد ضرورة حماية حاضرنا وماضينا كمستقبلنا من العنف والإجرام -أيّ عنف وأيّ إجرام-. وما أطالب به هو التنسيق الإنسانيّ والعقلانيّ لبيتنا الفلسطينيّ لحماية هُويّتنا والحفاظ على نضالنا وإرادتنا الجمعيّة -وبدون عنف.

إنّ ما أطرحه هو البحث عن البدائل الديمقراطيّة ونبذ الأفكار المنادية بالتقاتل، وعدم القبول بممارسات تعتمد تقاليد الاحتكام غير الديمقراطيّة لحسم ازدواجيّة السلطة والموقف، وبخاصّة لأنّ من يقف في رأس سلّم المتضررين ونتائجه الكارثيّة هي المرأة، إذ تدفع من طاقاتها وآمالها وأحبّائها أثمانًا باهظة.

ليس الهدف هو التوصّل إلى انقلابات داخليّة، بل الوصول إلى انقلاب مفاهيميّ قيميّ إنسانيّ، انقلاب يعي المسؤوليّة الملقاة على عاتقنا للاستمرار في المقاومة المسؤولة الإنسانيّة والمعتمدة على ميراث النضال النـزيه والعادل.

ولكنّي أعود لأتساءل: ماذا حدث لنا؟! نحن نمتلك ترسانة من المبادئ والمعايير الإنسانيّة، فلا بدّ لنا من العودة لاستعمالها لأنّها هي هي بيتنا الذي -رغم مصادرته وهدمه وتشتيته وقمعه- صمد وبقي واقفًا أمام الإرهاب، اللا عادل، وقمع الآخر. لا، لن نسمح أن يتراجع التاريخ بنا.

التعليقات