31/10/2010 - 11:02

مؤتمر الوفاق في القاهرة: ليس تعريباً للمسألة العراقية/عبد الإله بلقزيز

مؤتمر الوفاق في القاهرة: ليس تعريباً للمسألة العراقية/عبد الإله بلقزيز
ما كان أدعى الى الارتياح من ان يقع تعريب للمسألة العراقية بعد طول احتباسها في نفق الحل الامريكي المسدود منذ غزو ارض الرافدين واحتلالها واسقاط دولتها. فالتعريب، وان كان شاحب الملامح، ضعيف الهمة ومتأخر الاقدام كعادته، خير من بقاء مصير العراق رهنا بحسابات الغزاة لاوضاع السياسة في عقر دارهم وفي الساحتين الاقليمية والدولية. فهو ـ في اقل ما يعنيه ـ مناسبة لاعادة العراق الى دائرته العربية المنتزع منها بعملية اختطاف قسرية، ومناسبة لعودة العرب اليه بعد انصرافهم عنه مخافة اغضاب الغزاة الخاطفين، واستجابة لسيل من الدعوات متلاحق لقطاعات سياسية واجتماعية عراقية الى تدخل رسمي عربي ينتشل وطن العراقيين من جحيم الاحتلال ومن فتنة مذهبية تشتغل عليها دولة في الجوار.

ويتذكر اكثرنا ان التعريب كان ـ الى عهد قريب ـ جرعة سياسية شافية لكثير من الادواء التي دبت في بعض مجتمعات العرب المعاصرة، مثل الحروب الداخلية او البينية. فلقد كان في وسع مصر الناصرية، في الهزيع الاخير من حياة زعيمها، ان تخمد حريق الحرب الاردنية ـ الفلسطينية في عمان واربد والزرقاء واحراش جرش وعجلون (1970) وتستوعب تداعياتها المأساوية في نطاق عربي.

وكان في وسع التعريب ان يلاحق الحرب الاهلية اللبنانية ونتائجها الكارثية لعقد ونصف من الزمن تقريبا: من مؤتمري القاهرة والرياض (1976) الي مؤتمر المصالحة الوطنية في الطائف (بعد قمة الدار البيضاء ) ليضع لمشاهدها الدموية فصلا ختاميا.

لكن ذلك التعريب توقف فجأة عن ان يستمر تعريبا في مطلع عقد التسعينيات الماضي: حين ازف موعد مجيئه المفترض مع ازمة الخليج ـ الناجمة عن اجتياح العراق للكويت ـ وبداية الاحتشاد العسكري الامريكي والاطلسي على حدود العراق تمهيدا لضربه. لا بل ان الادهى من ذلك ان التعريب الوحيد الذي شهدناه اثناءها كان تدويلا في صورة تعريب ! اذ سرعان ما اجيزت الحرب الامريكية ـ الاطلسية على العراق بقرار عربي، وباتت مفردات القرارات العربية، ترصد نفسها على ايقاع مفردات قرارات مجلس الامن. عندها، تحدث من تحدث عن هذه البدعة بالقول ان الشرعية العربية ليست ذات اعتبار او قيمة من الشرعية الدولية مع علمه ان هذه الشرعية الاخيرة زورت وصودرت وباتت في حكم الذريعة لكل الوان العبث بالقانون الدولي من قبل الدولة العظمى الوحيدة في العالم!

وقد يكون المستبشرون اليوم بـ تعريب المسألة العراقية ـ بمناسبة رعاية جامعة الدول العربية لمؤتمر الوفاق الوطني العراقي في القاهرة ـ ممن يملكون فضيلة الصفح والنسيان: الصفح لـ تعريب افتضح امره في العراق (اعوام 1990 ـ 1991 ـ 1994 ـ 1998 ـ 2003)، ونسيان هنات السياسة العربية الرسمية وتعظيم مسؤولياتها القومية والاخلاقية تجاه شعب ترك لقدره امام الحرب والحصار لمدى اثني عشر عاما (1991 ـ 2003)، وامام الغزو والاحتلال لمدى عامين ونصف، من دون قليل انتباه في وقت كان فيه بعض تلك السياسة العربية الرسمية شديد الانصراف الى العناية بمحنة المسلمين في البوسنة وكوسوفو والشيشان! ومع كبير التقدير لدواعي ذلك الاستبشار عند من استبشروا بـ التعريب ولروحية التسامح مع اخطاء السياسة العربية الرسمية وخطاياها (في حق شعب العراق منذ عقد ونصف)، الا اننا نجد انفسنا مدفوعين الى الاعتذار منهم عن عدم حسننا الظن بما احسنوا الظن فيه: اعني تعريب الازمة العراقية. فالذي تبين لنا من قراءة مشهد مؤتمر الوفاق في القاهرة ـ والله اعلم ـ شيء يخالف ما ذهبوا اليه من تقدير للموقف.

تبين لنا ان عقد مؤتمر الوفاق ، وان كان قرارا لجامعة الدول العربية من حيث الشكل، ما كان ليتم لولا اجازة من دولة الاحتلال (الولايات المتحدة الامريكية) لاسباب ودواع تخصها ولا تخص العرب وجامعتهم. والا: من يملك من الحكومات العربية ان يتدخل في الشؤون الداخلية للعراق (اي في الشؤون الداخلية للاحتلال)؟ من يملك ان يزاحم الولايات المتحدة في جائزتها وكعكتها (العراقية) بعد ان نالت تفويضا دوليا ـ من مجلس الامن ـ بادارة شؤون العراق تحت مسمى القوات متعددة الجنسيات ، وتسليما من الحكومة المتعاونة معها بذلك؟ هل ننسى ـ مثلا ـ ما تلاقيه سورية من ضغوط وتهديدات بدعوى تدخلها في العراق؟! ثم هل كانت جامعة الدول العربية ـ وخاصة امينها العام الذي تعرض لاشد حملات التشهير في العراق ـ لتنجح في اقناع من شتموا العروبة وجامعتها، من اصدقاء امريكا في العراق، بحضور مؤتمر برعايتها ـ هم المتمسكون بالرعاية الامريكية لاوضاعهم ـ فيما قسم منهم شديد الولاء لايران وقسم ثان متحفز ضد كل ما يذكر بعروبة العراق (هل كانت لتنجح في ذلك اذن) لولا الايعاز الامريكي لهؤلاء بالمشاركة في المؤتمر؟!

من جهتنا، نحتسب ان مؤتمر الوفاق حاجة سياسية امريكية تولدت لدى ادارة بوش وقادة الاحتلال نتيجة المأزق الحاد الذي تعيشه السياسة الامريكية في العراق، والذي يحمل اليوم ثلاثة عناوين: الخسائر العسكرية الفادحة في صفوف قوات الاحتلال بسبب ضربات المقاومة وانهيار الاوضاع الامنية في مجموع العراق، والتغلغل الايراني المتزايد في النسيج السياسي والاجتماعي العراقي مما يعطــــي النفوذ الاقليمي الايراني امتدادا في مناطق حساسة، ثم المطالبات الامريكية الداخلية المتزايدة بسحب القوات من العراق والتي تهدد مركز الجمهوريين في انتخابات الكونغرس القادمة.

انابت الولايات المتحدة النظام العربي عنها للبحث عن حل سياسي للمأزق في العراق املا في ان يوفر لها ذلك غطاء سياسيا للخروج من المستنقع العراقي. سلفته دورا متسلحة بقناعة هي ان القوي العراقية الخائفة على عروبة العراق، من النزعات الصفوية والكردية، لن تتردد في مفاوضة خصومها ان كانت الجامعة العربية خيمة ذلك التفاوض وهو عين ما حصل فالذين كانوا يرفضون ـ او يتحفظون على ـ الحوار مع القوى الحليفة للاحتلال، والذين قاطعوا مؤسسات الاحتلال ( مجلس الحكم الانتقالي ) وانتخاباته وبرلمانه (الجمعية الوطنية)، ما وجدوا غضاضة في مفاوضة من اصطفوا مع الاحتلال بسبب كون المفاوضة تجري في اطار عربي. اي في اطار يقدم الطمأنة السياسية لهم. اما من يعتقد ان الادارة الامريكية بعيدة عن ملابسات انعقاد مؤتمر الوفاق في القاهرة، فيعاني من عسر حاد في فهم موقع المسألة العراقية في السياسات الاقليمية والدولية، ولدى السياسة الامريكية بخاصة. ومن يعتقد بغياب الصلة بين المؤتمر وبين الرغبة الامريكية في الخروج من المستنقع العراقي، عليه ان يسأل نفسه لماذا اتت تصريحات كوندوليزا رايس عن امكانية سحب تدريجي للقوات الامريكية من العراق بعد المؤتمر اياه فقط.

هذا ليس طعنا في جامعة الدول العربية، انما هو استدراك ينصرف الى بيان امرين: ان التعريب ليس دائما قرارا عربيا (حتي في الطائف كان يحتاج الى اجازة دولية)، وهذا من اثار الاستتباع السياسي العربي الرسمي والمصادرة الاجنبية للارادة العربية، وان المأزق الامريكي استفحل الى الدرجة التي بات فيها الاستنجاد بدور عربي خيارا لا مهرب منه امريكيا. يبقى ان ينجح هذا الدور العربي في الانتقال من توفير حل لامريكا الى توفير حل للعراقيين وللعرب انفسهم.

التعليقات