31/10/2010 - 11:02

مؤتمر بوش للسلام: فجوات بين الرغبة والقدرة ../ معن بشور

مؤتمر بوش للسلام: فجوات بين الرغبة والقدرة ../ معن بشور
سألني صديق تعليقاً على «النتائج المتواضعة» التي حققتها زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندليسا رايس إلى فلسطين المحتلة «لماذا يصر بوش على عقد مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط في أواسط تشرين الثاني المقبل»، لا سيما بعد أن بات واضحاً أن المسؤولين الصهاينة، كأولمرت وليفني، حريصون على «خفض سقف توقعات رايس وتخفيف حماستها» ـ حسب صحيفة معاريف ـ(لأن الوقت لم يحن بعد للخوض في القضايا الشائكة ـ كقضيتي القدس واللاجئين ـ خصوصاً أن الرئيس الفلسطيني «أبو مازن» حسب المصادر الإسرائيلية غير قادر في ظل الانقسام الداخلي على تنفيذ أي اتفاق، وأن وضع أولمرت الداخلي لا يسمح له بتقديم ما يعتبره الإسرائيليون تنازلات في قضايا تعتبر بمثابة خطوط حمراء لهم. بل كما تردد مصادرهم بأن أكثر ما يمكن أن يخرج به المؤتمر المرتقب هو «وثيقة مبادئ جديدة تضاف إلى وثائق مماثلة» وقعها الطرفان الفلسطينيان في أوسلو وحدائق البيت الأبيض، وشرم الشيخ، وواي بلانتايشن، وفقدت مفعولها كله مع وقفة الرئيس الشهيد ياسر عرفات الشجاعة في كمب ديفيد في مثل هذه الأيام قبل 7 سنوات.

ولقد بات واضحاً أيضا أن وزيرة خارجية تل أبيب اقترحت على نظيرتها الأميركية انه أمام الفجوات بين الرغبة والقدرة، «فليكرس المؤتمر مداولاته للشؤون الاقتصادية وملامح مؤسسات السلطة الفلسطينية وهيكلية أجهزتها الأمنية».

قلت لصديقي : يبدو أن إدارة بوش في سنتها الأخيرة غارقة في لعبة «علاقات عامة» غبية في معظم القضايا الساخنة التي تواجهها، سواء في فلسطين أو العراق أو لبنان أو حتى في «الملف النووي الإيراني»، فهي أيضا تعيش فجوة واسعة بين الرغبة والقدرة، وهي تدرك أيضا حدود «قدراتها» الإستراتيجية، لذلك ليس أمامها إلا أن توحي للرأي العام الأميركي، وخصوصاً «للمؤسسة الأميركية الحاكمة» بشقيها السياسي والعسكري، أنها بصدد «انجاز ما» في هذه القضية أو تلك، بهدف كسب الوقت وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية التي يحرص الرئيس بوش أن يخرج منها، ومن البيت الأبيض بالذات، بصورة الرئيس «العنيد»، الملتزم بقناعاته، المتمسك بأهدافه، خصوصاً بعد أن بات يدرك انه إذا كان لا يستطيع أن يخرج من ولايته في حكم الدولة الأقوى في العالم بصورة «المنتصر» أو الرئيس «الناجح في تحقيق أهدافه» فليخرج إذاً كرئيس لا يتراجع عن مواقفه وقناعاته.

ولعل ابلغ دليل على تواضع الرئيس بوش «المستجد» في تحديد أهدافه، التي تغيرت مرات كثيرة خلال سنوات ولايته، هو ما أعلنه في مؤتمر صحفي في 19/9/2007 في معايير النجاح في العراق تتمثل «بخفض نسبة العنف في العراق إلى مستوى مقبول» (كذا وبالحرف) «وبإنشاء حكومة قادرة على الاستمرار» (هل حكومة المالكي غير قادرة؟!) «وجيش عراقي يحفظ الاستقرار الداخلي وأمن الحدود» (أين ذهبت جهود أربع سنوات ونيف وإنفاق عشرات المليارات من الدولارات لقيام هذا الجيش)، «وديمقراطية تتماشى مع الأسلوب العراقي وحليفه للولايات المتحدة ضد التطرف» (أي ديمقراطية المحاصصة والفتنة المذهبية، والاقتتال بين أبناء المذهب الواحد).

في لعبة العلاقات العامة هذه، تدرك إدارة بوش أنها أضعف من أن تلزم تل أبيب بصيغة للتسوية تكون معقولة ومقبولة للفلسطينيين، ومقنعة للعرب (هذا لو افترضنا جدلاً أن هذه الإدارة راغبة أصلا بهذه التسوية)، لكنها في الوقت ذاته أقوى من أن تترك للصراع بين الحق الفلسطيني والعربي والاغتصاب العنصري الصهيوني أن يأخذ مداه، فتتسع رقعة المقاومة وفعالياتها داخل فلسطين وعلى مستوى المنطقة.

وهي في العراق أيضا أضعف من أن تفرض سيطرتها ومخططاتها ومشاريعها على غير مستوى، ولكنها أيضا ما زالت تملك ـ حتى الآن ـ القوة التي تمنعها من الاستسلام تماما لإرادة الشعب العراقي.

وهي في لبنان وصولاً إلى سوريا، أضعف من أن تستطيع فرض مشيئتها وإملاءاتها، وقد حاولت ذلك خلال صيف عام 2006 عبر الحرب الإسرائيلية في لبنان، ولكنها في الوقت نفسه ما تزال مؤثرة، بفعل تحالفات محلية وإقليمية ودولية، إلى الحد الذي يمنع لبنان، ومعه سوريا، من العبور إلى شاطئ الأمان والاستقرار.

وفي إيران، ما زالت إدارة بوش ـ حتى الساعة ـ وبحكم مجموعة من القيود الداخلية والدولية، أعجز من أن تفرض على القيادة الإيرانية تصوراتها لمستقبل المشروع النووي، كما لمستقبل الدور الإقليمي لإيران، ولكنها في الوقت ذاته ما زالت قادرة على وضع القيادة الإيرانية في موضوع الدفاع عن النفس، وفي وضع المنطقة والعالم بأسره على أبواب احتمالات حرب مدمرة تدك استقرار الدول المجاورة لإيران امنياً وسياسياً، وتدك استقرار الدول البعيدة عنها نفطياً واقتصادياً.

باختصار، وبالمصطلحات الإستراتيجية الشائعة، يمكن القول إن إدارة بوش ما زالت تمتلك أوراقا «تكتيكية» متعددة، لكنها لم تعد تملك القدرات الإستراتيجية اللا محدودة التي بدا أنها تمتلكها بالفعل بعد انهيار المنظومة السوفياتية، واحتلال العراق وأفغانستان. طبعاً حين تواجه الدول العظمى واقعاً كهذا، لن تستطيع أوراقها التكتيكية أن تعيد صياغة الموازين الإستراتيجية لصالحها، بل ستضطر تلك الدول، في النهاية، إلى سحب أوراقها التكتيكية تلك لصالح الواقع الاستراتيجي الحقيقي، وهذا ما نبهنا إليه منذ اللحظة الأولى لعدوان تموز الإسرائيلي متوقعين له الفشل، ومتوقعين له آنذاك أن يغالب هزيمته بوحشية غير مسبوقة ضد لبنان ومقاومته وشعبه وجيشه وبناه التحتية وبيوت مواطنيه.

في ظل هذا الواقع الذي بات يقيد سياسات بوش ويحاصرها، داخل الولايات المتحدة وخارجها، لا يبقى لإدارة الرئيس العنيد سوى الاعتماد على أسلحة ثلاثة، مشتركة في مرمى نيرانها، متكاملة في تحقيق أهدافها.
السلاح الأول هو الحرب الإعلامية التي خصصت لها الإدارة الأميركية، منذ بدء الحرب على العراق، ميزانية ضخمة، وإدارة خاصة في البنتاغون، باسم دائرة «التضليل الإعلامي»، ثم ما لبثت أن غيرت اسمها دون انه تغير أهدافها.
إن هذه الحرب الإعلامية تنطلق من مبدأ إعلامي ونفسي بسيط يطور نظرية غوبلز النازي الشهيرة: «اكذب ثم اكذب ثم اكذب، فلا بد أن يصدق الناس بعض ما تقوله».
يقوم هذا المبدأ الإعلامي والنفسي على أن الحقيقة التي ترسخ في أذهان الناس ليست الحقيقة الحقيقية، بل هي الصورة التي ينجح الإعلام، وغيره، في رسمها لتلك الحقيقة، لذلك نرى حجب أخبار وحقائق وإبراز غيرها، كما نرى تحريفاً في الخبر ذاته إذا لم يكن بالإمكان حجبه، وتضخيماً لأخبار وأدوار وقوى وأشخاص وتحجيماً لأخبار وادوار وقوى وأشخاص.

أما السلاح الثاني فهو ما يسمى «بالعلاقات العامة» وقد باتت شركات «العلاقات العامة» كشركات «الأمن» الخاصة، مؤسسات ضخمة في عالم اليوم تسير موازية لوزارات الخارجية والأجهزة الدبلوماسية وللقوات المسلحة والأجهزة الأمنية النظامية. ومن باب الطرافة نذكر أن احد الأنظمة العربية المعروفة باعتمادها على الأجهزة الأمنية، قد أطلق في أيامه الأولى اسم «العلاقات العامة» على جهازه الأمني الأبرز، في إشارة مبكرة إلى الصلة بين مجالي العمل.

في مجال «العلاقات العامة» مثلاً، ليس مهماً الوصول إلى نتيجة محددة بل القيام بحركة توحي بإمكان الوصول إلى هذه النتيجة، فعملية السلام مثلا، لا السلام، تصبح هي الهدف. وهذا ما لمسه العرب والعالم منذ أواخر الستينات حين انطلقت ما سمي اليوم «عملية السلام» في «الشرق الأوسط»، فإذا بنا بعد أربعة عقود نرى «السلام» يبتعد، وعملية «السلام» تلف أعناقنا، وتشل إرادتنا، وتهزأ بحقوقنا، وتنتج الانقسامات في صفوفنا، وتخفف من مسؤولية أعدائنا.
لهذا السلاح، وللسلاح المكمل له أي الإعلام، تبرز مهمتان متوازيتان أولاهما تسويق أصحابها، وفي هذه الحال المقصود تسويق الإدارة الأميركية، خصوصاً أمام الرأي العام الداخلي الذي تتعاظم اعتراضاته، وتتزايد انتقاداته، وتكثر تساؤلاته.

فما تعجز وسائل الإعلام الكبرى عن تسويقه من سياسات، وتغطيته من هزائم، تعمد حركة العلاقات العامة إلى معالجته، فتكثر الزيارات إلى المنطقة (حتى ولو كان ضحيتها مضيف عراقي كعبد الستار أبو ريشة) أو تتكاثر المبادرات التي تسعى الواحدة منها إلى طمس سابقتها وإدخالها دائرة النسيان، أو تتواصل التقارير المليئة بالتوصيات فإذا بالرأي العام الأميركي «أمام تقارير وتقارير فيما المطلوب قرار واحد».

أما المهمة الأخرى فهي المتصلة بالضحية أو بالضحايا (كما هو حالنا في المنطقة) حيث تجند وسائل الإعلام هذه، وحركات العلاقات العامة، كل طاقاتها لزرع بذور الفتنة داخل مجتمعنا، ولإطلاق موجات التفتيت والانقسام في أوطاننا، ولخلق فوضى «خلاقّة» (سميناها في مطلع عام 1991 «بالفوضى العالمية المنظمة كبديل عن النظام العالمي الجديد»).
فوراء كل صورة تبث على بعض المرئيات مشروع تحريض، ووراء كل مبادرة تطلق فتنة يتم التحضير لها، ووراء كل تشجيع لفريق محلي على آخر مشروع تحريض يبدأ بالكلام أولا ليصل إلى الدم بعد حين.

وهكذا نصل إلى السلاح الثالث وهو الفتنة والحروب والصراعات الأهلية، العرقي منها أو الطائفي أو المذهبي وصولاً إلى الفئوي منها والجهوي والحزبي. وشعار أصحاب هذا السلاح بات معروفاً: أما أن نكون أسياد الأرض (وهي ليست لهم بالطبع) أو أن نترك الأرض محروقة، وإذا لم نستطع تحقيق ما نطمح إليه من أغراض ومصالح فلنحرم الشعوب والقوى التي منعتنا من أن تنعم بالاستقرار والاستقلال.

ونظرة سريعة إلى ما يجري في منطقتنا كافية لان تظهر حقيقة ما نشير إليه. ولكن يبقى السؤال : إلى متى ستبقى منطقتنا أسيرة هذه الأسلحة الثلاثة: تضليل وتجهيل في الإعلام، نفاق وكذب في العلاقات، وإمعان في تفتيت الأوطان وتمزيق المجتمعات؟
الجواب بالطبع ليس صعبا، انه مرهون بوعينا لهذه الآليات، والتحرر من تأثيرها، وإدراك مخاطرها على الأمة وعلى الوطن، كما على الأطراف المتنازعة نفسها داخل الأوطان والأمم.
والجواب أيضا يكمن باعتماد نهج المقاومة والممانعة بكل مستوياته كخيار تاريخي للأمة ولقواها والتوحد حوله وتحريره من كل شائبة قد تعلق به وتُدسّ عليه، وفي مقدمها تحرير هذا النهج من آليات التفرقة وخطب الإثارة العنصرية أو الطائفية أو المذهبية، والإدراك أن المقاومة هي ثالث الأركان في مشروع نهوض المجتمعات والأمم إلى جانب الوحدة والديمقراطية.

التعليقات