31/10/2010 - 11:02

ماذا بعد انقلاب موازين القوى في لبنان؟../ عصام نعمان*

ماذا بعد انقلاب موازين القوى في لبنان؟../ عصام نعمان*
حفل تاريخ لبنان دائما بأحداث غيّرت بعضاً من قسمات وجهه، أو أثّرت في بعض مكوّنات اجتماعه السياسي، أو أقصت نفراً من حكامه. لكن ثمة قانوناً نافذاً في تاريخه المعاصر يشير إلى ان ما من تحوّل مصيري في ماضيه وحاضره إلا وكان نتيجة عاملين أساسيين هما اختلال في موازين القوى الإقليمية والدولية، وتدخل خارجي للتفريق أو التوفيق بين طوائفه وجماعاته.

في الحرب العالمية الأولى 1914 1918 انهارت السلطنة العثمانية، فنشأ ميزان قوى إقليمي جديد لمصلحة بريطانيا وفرنسا أدى، على خلفية اتفاق سايكس بيكو، الى تقاسم المشرق العربي بينهما. في هذا السياق ولدت “دولة لبنان الكبير” على يديّ قابلة فرنسية.

في الحرب العالمية الثانية 1939 1945 انهارت فرنسا أمام جحافل ألمانيا النازية فحلّت بريطانيا محلّها كقوة إقليمية نافذة ما أدى الى إعلان استقلال لبنان العام 1943 في إطار تحالف إقليمي (جامعة الدول العربية) رعت قيامه بريطانيا لتمسك عبره بدول المنطقة ومقدراتها.

في العام 1958 بلغت الحركة الناصرية أوجها بتوحيد مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة). لكن دول الغرب الأطلسي و”إسرائيل” سرعان ما امتصت الصدمة وشنّت هجوماً معاكساً مديداً أدى الى فصم عرى الوحدة (1961) وهزيمة مصر الناصرية (1967) الأمر الذي انعكس سلباً على تنظيمات المقاومة الفلسطينية التي تم البطش بها واكرهت على النزوح إلى لبنان مطلع السبعينات.

تأذّت “إسرائيل” من عمليات المقاومة الفلسطينية المنطلقة من لبنان، فكان أن ترسملت على اتفاقية “كامب ديفيد” (1978) التي أخرجت مصر من حومة الصراع، لتشن الحرب على منظمة التحرير الفلسطينية (1982) وتُكره تنظيماتها على المغادرة الى تونس واليمن. غير ان قيام الثورة الإسلامية في إيران (1979) أدى إلى دعم قوى المقاومة اللبنانية التي تمكّنت، بعملياتها الاستشهادية الكاسحة، من إكراه “إسرائيل” على الانسحاب من معظم الأراضي اللبنانية، ومشاة البحرية الأمريكية على الانسحاب والعودة إلى قطع الأسطول السادس في البحر المتوسط. كل ذلك صحّح موازين القوى المحلية لمصلحة القوى المعادية للغرب الأطلسي، فكان ان رعت السعودية، بتفاهم ضمني مع دمشق وواشنطن، مصالحةً بين الأطراف اللبنانيين المتصارعين وجدت ترجمتها في “اتفاق الطائف” (1989).

تضاعف نفوذ سوريا وحلفائها نتيجة اتفاق الطائف ما مكّنهم من حكم لبنان بيسر وهدوء لغاية منتصف فبراير/ شباط 2005. ذلك ان اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري فجّر ردة فعل شعبية عارمة ضد سوريا سرعان ما ترسملت عليها الولايات المتحدة وفرنسا لإكراه دمشق على سحب قواتها من لبنان ربيعَ السنة نفسها.

إذ أخفقت الولايات المتحدة في تجريد المقاومة بقيادة حزب الله من السلاح وفق قرار مجلس الأمن ،1559 فقد أوعزت الى “إسرائيل” بشن حرب تدميرية على المقاومة ولبنان صيفَ العام ،2006 إلا ان حزب الله تمكّن من دحر العدو الصهيوني بشجاعة وكفاءة نادرتين. ذلك أدى إلى تصحيح ميزان القوى المحلي لمصلحة المقاومة وحليفاتها.

مع تنامي قدرات إيران وإصرارها على برنامجها النووي ودعمها المتزايد لتنظيمات المقاومة في لبنان وقطاع غزة، تصاعدت مخاوف الغرب الأطلسي، لاسيما الولايات المتحدة، فاتجهت مجدداً إلى محاولة ضرب إيران أو، على الأقل، الى إزاحة وجودها الاستراتيجي المستجد على طول حدود لبنان وسوريا وقطاع غزة مع “إسرائيل”. ذلك يتطلب، بطبيعة الحال، مشاركة فاعلة من “إسرائيل” نفسها كما من بعض القوى الموالية لواشنطن في لبنان.

المشاركة اللبنانية سرعان ما ظهرت واتخذت طابعاً سياسياً. فقد بادرت حكومة فؤاد السنيورة إلى اتخاذ قرار بإلغاء شبكة الاتصالات السلكية العائدة للمقاومة وبملاحقة المسؤولين عن إقامتها وتشغيلها امام القضاء الجزائي! انتفض جمهور المقاومة غضباً واحتجاجاً على ما اعتبره هدية مجانية من السنيورة ل “إسرائيل”، حتى إذا خطب السيد حسن نصر الله شاجباً فعلة السنيورة ومهدداً بالردّ على المس بسلاح المقاومة بالسلاح نفسه، انفجر مرجل الغضب صداماً مسلحاً بين ميليشيا “تيار المستقبل” (سعد الحريري) وميليشيا الحزب التقدمي (وليد جنبلاط) من جهة ومقاتلي حزب الله والحزب القومي الاجتماعي (علي قانصو) والحزب الديمقراطي (طلال ارسلان) و”تيار التوحيد” (وئام وهاب) من جهة أخرى.

خلال 48 ساعة في بيروت وثلاث ساعات في منطقتي عاليه والشوف، انقلب ميزان القوى المحلي، أمنياً على الأقل، لمصلحة قوى المعارضة التي وضعت يدها على المناطق المذكورة وسط دهشة الجميع، لبنانيين وعرباً وأجانب.

بصرف النظر عن أسباب انهيار قوى الموالاة، فإن واقعاً سياسياً مختلفاً نشأ مساء 7 مايو/ أيار 2008 يتسم بالمزايا الآتية:

* لأول مرة في التاريخ المعاصر، تتمكن قوى لبنانية من تغيير ميزان القوى المحلي لمصلحتها دونما مساعدة خارجية وبمعزل عن أي تغيير طارئ في موازين القوى الإقليمية.

* كشف انتصار قوى المعارضة ان حزب الله يتمتع بقدرات عسكرية وازنة، وأن لبنان في ظل هذه القوة الاستراتيجية المقتدرة، قد أضحى “دولة” من دول المواجهة ل “إسرائيل” وحلقة قوية في سلسلة حلف إقليمي متنامي القدرات يمتد من بيروت الى طهران مروراً بسوريا والعراق.

إذ فوجئت إدارة بوش بسرعة انهيار حلفائها، سعت بادىء الأمر إلى التخفيف من وقعه بالامتناع عن توصيف ما حدث بأنه انقلاب طالما حكومة السنيورة ما زالت قائمة. غير ان لهجة جورج بوش المغادر إلى حجة وداع “إسرائيل” قبل بضعة أشهر من انتهاء ولايته أخذت بالتصاعد. فقد قالها بالفم الملآن إنه معجب بالسنيورة، مطلقاً عليه نعت “الشجاع”، ومعلناً عن وجوب “تجنيد العالم” لمساعدته، ومعتبراً ان ما يجري في لبنان حالياً مسألةَ “ديمقراطية تحاول العيش”، وان من مصلحة “إسرائيل” ان “تبقى” هذه الديمقراطية.

“ديمقراطية” السنيورة لا تستطيع ان تعيش على تصريحات بوش وحدها. لذلك حرص الرئيس الأمريكي على تحريك المدمرة “كول” قبالة شواطىء لبنان قبل وصوله إلى “إسرائيل”، وإيفاد بضعة ضباط كبار برئاسة قائد القيادة الوسطى إلى سفارته في بيروت لتقويم الوضع على الطبيعة من أجل النظر في ما يمكن، أو لا يمكن، تقديمه من مساعدات.

لا تبدو واشنطن في وارد التفكير بالتورط في مغامرة جديدة في لبنان. أما إذا كانت تفكر بما يتعدى التدابير السياسية والاقتصادية، فإن ذلك يندرج بلا ريب في خطتها الرامية الى مواجهة إيران (وسوريا) عسكرياً. ولكن هل في وسع بوش (وتشيني) ان يفعل شيئاً استثنائياً قبل انتهاء ولايته؟ سؤال سيعذّب المراقبين طويلاً.

ماذا عن الوفد الوزاري العربي؟ وماذا يمكنه أن يفعل؟

لعل المهمة الرئيسية للوفد هي تدوير الزوايا بين الأطراف المتصارعين لإقناعهم بالجلوس بالسرعة الممكنة إلى طاولة الحوار.

إنجاز هذه المهمة يتطلب وقتاً وجهداً وتذليلاً كاملاً للشروط والشروط المضادة. المخرج؟ الاقتصار على بحث بندين من بنود المبادرة العربية وهما حكومة الوحدة العربية وقانون الانتخاب.

حتى لو وافق جميع الأطراف على جدول الأعمال المختصر فإن ذلك لا يشكّل إلا مدخلاً لائقاً للحوار. ماذا عن المضمون؟ بل ماذا عن الصيغة التي يجب ان يكون عليها او فيها النظام السياسي في لبنان؟

لعل الأطراف المتحاورين، كما رعاة الحوار، سيكتشفون سريعاً ان أية تسوية سياسية قابلة للحياة في ظل اختلال ميزان القوى المحلي لمصلحة قوى المعارضة تتطلب دوراً وازناً لسوريا. هنا تنهض جملة أسئلة:

هل تقتنع الأطراف المعنية، بعد طول مكابرة، بأنه لا بدّ من التعاطي بإيجابية مع دمشق؟

ما الثمن الذي ستطلبه دمشق؟ هل سيكون في لبنان أم في الجولان؟

ما مستقبل حزب الله في التسوية المرتقبة؟ هل يرضى بأقل من تحرير كامل الأرض والمياه اللبنانية من قبضة الاحتلال “الإسرائيلي” قبل الموافقة على الانتقال نهائياً من المقاومة إلى السياسة؟

هل ترضى دمشق وحزب الله بمصالحة واشنطن في لبنان والمنطقة قبل الاستحصال منها على إنجاز وازن لمصلحة “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في فلسطين؟ ثم، ما موقف طهران من كل هذه القضايا والاحتمالات؟

أسئلة تبحث عن أجوبة... وقد يطول الانتظار.
"الخليج"

التعليقات