31/10/2010 - 11:02

متى نطلق اسم بترايوس على ساحة الفردوس؟../ فيصل جلول

متى نطلق اسم بترايوس على ساحة الفردوس؟../ فيصل جلول
لا نعرف ردود فعل النخب العربية إزاء جملة شهيرة أطلقها الماريشال البريطاني، اللنبي عندما احتل القدس خلال الحرب العالمية الأولى: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”. وكان الجنرال الفرنسي غورو قد أطلق العبارة نفسها أمام قبر صلاح الدين في دمشق. ما نعرفه أن الشعراء والأدباء كانوا حينذاك يشيدون ب”إنقاذ العرب من الاستبداد العثماني”، وبـ”تحرير لبنان” من “الاستعمار التركي” أما أن يترافق كل هذا التحرير مع عبارة تاريخية موجهة إلى السلطان الأيوبي فهو ما لم يثر حفيظة أحد في حينه، والظن الغالب أن الوعي التاريخي لدى النخب العربية آنذاك كان محدوداً، ولربما مشوشاً فيما الجنرالات الأجانب كانوا متخمين بالمشاعر الثأرية التاريخية، وكانوا يدركون أن الاحتلال لحظة تاريخية فاصلة، تستحق عبارات خالدة.. أما أن يصدق العرب دعاوى و”ذرائع” “الإنقاذ” والتحرير فذلك شأنهم وعليهم وقعت ولا تزال تقع العواقب.

ليس من الصعب منح أسباب تخفيفية لنخب عربية خارجة لتوها من عبء أربعة قرون عثمانية، تم خلالها تهميش عالم العرب وتحويل بلادهم إلى ما يشبه الحطام، لكن كيف يمكن منح النخب العربية الحالية أسباباً تخفيفية، وقد استعادت بعضاً من وعيها التاريخي وبعد أن أدركت المآل الحقيقي لـ”الإنقاذ” و”التحرير”؟ وقد يكون مفهوماً أن يسمي الاقدمون شوارع في عواصمنا وخاصة في بيروت باسم “اللنبي” و”غورو” و”سبيرز” بتأثير من وعي قاصر لكن ما دهانا نحن شهود هذا العصر لا نطرح السؤال على أنفسنا: أمن المعقول أو الجائز تكريم جنرالات محتلين بهذه الطريقة. هل نتخيل شارعاً في لندن يحمل اسم صلاح الدين الأيوبي؟ وهل نتخيل شارعاً في واشنطن يحمل اسم خالد بن الوليد؟ وهل نتخيل اسم عقبة بن نافع أو عبد الرحمن الداخل في شوارع باريس الرئيسية؟

ثمة من يقول إن التاريخ يجب أن يمضي بوصفه “فعلاً ماضياً” وليس فعلاً للمستقبل وأنه لا بد من التواصل بين الشعوب والحضارات بدلاً من التكاره والصراع، وبالتالي لا غضاضة في أن يكون اسم أجنبي على شارع عربي، بل هو محبذ ومطلوب. هذا القول صحيح بالتمام والكمال إذا كان ناجماً عن رغبة متبادلة بين الحضارات، وعن ثقافة سياسية رحبة تجعل حضور الآخر في حياتناً فعلاً محبباً، ودليلاً على وئام وتعايش. وحتى يكون على هذه الحال لا بد من الاختيار، وبالتالي بدلاً من أن نعمر شوارع عواصمنا بأسماء الجنرلات المحتلين فليكن التكريم للفلاسفة الاجانب. أليس من الافضل أن يمشي العربي في شارع في عاصمته يحمل اسم برنارد شو او شكسبير بدلاً من اللنبي أو أرسطو أو سرفانتيس بدلاً من غورو أو مونتسكيو بدلاً من سبيرز؟

وإذا كان تكريم الجنرال الأجنبي المحتل فعلاً قميئاً لا يقل بشاعة عن اطلاق اسم الجنرال دايفيد بترايوس على ساحة الفردوس في بغداد، فإن تكريم بعض الاجانب الذين يمجدون العرق الاوروبي ويجعلونه متفوقاً بالسلالة الطبيعية على كل اعراق العالم، هذا التكريم يبلغ مرتبة مازوشية ويعبر عن سوء تقدير فظيع للذات، وقد وقع مؤخراً في لبنان مع تكريم المؤرخ ارنست رينان بتمثال نصفي في بلد غزير شمال بيروت، وكي لا نبدو وكأننا نحمل على المكرم (بضم الميم وفتح الراء) وعلى المكرم (بضم الميم وكسر الراء) لا بد من بعض الاشارات لما استخلصه المؤرخ الفرنسي الشهير حول الحضارات “.. لقد خلقت الطبيعة عرقاً من العمال هو العرق الصيني المتصف بمهارة يده العجيبة، وبخلوه من الاعتزاز بالنفس. يمكن للعرق المظفر أن يستفيد من نعمة هذا العرق (الصيني) إذا ما حكمه بالعدل. وهناك عرق الفلاحين الزنج فإذا ما حكم بالمعروف والإنسانية يستتب النظام. وهناك عرق الآسياد والجنود(الاوروبي) إذا ما عمل كل عرق وفق ما خلق من أجله فقد يستتب الامر للجميع”.

ويذهب رينان بعيداً في احكامه المتعلقة بالعرب والمسلمين فيقول “.. الاسلام هو الاستخفاف بالعلم وهو إزالة المجتمع المدني، وبساطة العقل السامي الفظيعة التي تقلص دماغ الانسان... الإسلام تحمّل الفلسفة مرغماً في النصف الأوّل من العصر الوسيط لأنه لم يكن قادراً على منعها ولم يكن في حالة تجانس تيسّر له ذلك ولم يكن يملك وسائل القمع. كانت الشرطة كما رأينا بأيدي المسيحيين وكان شغلها الأول تتبع تحركات العلويّين فكانت أشياء كثيرة تخترق سياج الممنوعات. ولما توفّر للإسلام أتباع كثيرون شديدو الإيمان أصبح ديدنه التنكيل بكلّ مخالف. إنّ ما يميّز المسلم جوهرياً هو كونه يحمل ضدّ العلم حقداً دفيناً وقناعة صلبة بأن البحث غير مجد بل هو مدعاة إلى الخطأ ويشبه أن يكون كفراً”.

ولا يقيم المؤرخ الفرنسي اعتباراً يذكر للعرب “... ما هو العربي في العلوم المدعوة بالعربية؟ إنه اللغة ولا شيء غيرها... يعدّ ابن رشد وابن سينا والبتّاني عرباً كما يصنّف ضمن اللاتينيين ألبرت الأكبر وروجير باكون وفرنسيس باكون وسبينوزا. إنها لمغالطة كبرى أن ننسب الفلسفة والعلوم العربية للجزيرة العربية، وإن مما يثير الانتباه أننا إذا رجعنا إلى قائمة الفلاسفة والعلماء المدعوين بالعرب وجدنا واحداً لا غير من أصل عربي، وهو الكندي والبقية فرس أو من شعوب بحر القزوين أو من إسبانيا أو من أهل بخارى وسمرقند وقرطبة وإشبيلية. لم تكن دماؤهم عربية كما لم تكن عقولهم عربية. استعملوا اللغة العربية مضطرين كما اضطر إلى اللاتينية مفكرو العصر الوسيط فطوّعوها لحاجتهم. واللغة العربية هي لغة شعر وخطابة لكنها أداة غير مناسبة للميتافيزيقا”.

(عن محاضرة لارنست رينان بجامعة السوربون صادرة عن دار كالمان ليفي. باريس في 29/ 3/ 1883)

تستدعي دواعي الانصاف القول إن أفكار واستنتاجات وأحكام هذا المؤرخ لا قيمة كبيرة لها بين مواطنيه ونخبهم اليوم، ومنهم من يحمل عليه بشدة ومع ذلك يكرم عندنا قبل أقل من شهرين فقط بتمثال برونزي وباحتفال مرموق.

عندما يكرم العربي جنرالاً أجنبياً احتل بلاده ومؤرخاً أجنبياً يحمل على لغته وعقيدته يجب ألا يصاب بالدهشة إن قيل إنه على أهبة الخروج من التاريخ.
"الخليج"

التعليقات