31/10/2010 - 11:02

مجزرة دير ياسين في ذكراها الستين../ عوني فرسخ

مجزرة دير ياسين في ذكراها الستين../ عوني فرسخ
ومع أنها لم تكن الأكثر بشاعة قياسا بمجزرة الطنطورة حيث دفن مواطنوها أحياء، ولا كان ضحاياها الأكثر عددا قياسا بمجزرة الدوايمة التي جاوز شهداؤها 500، إلا أنها تفردت بين المجازر المائة خلال حرب 1948 بكونها الأشد تأثيراً كارثياً في الروح المعنوية للشعب العربي الفلسطيني، للزمان والمكان اللذين اقترفت فيهما، ولغلبة الانفعال على الموضوعية في الإعلان عنها وترويجه. كما في الدروس المستفادة منها في حاضر ومستقبل الصراع التاريخي المتواصل مع الاستعمار الاستيطاني العنصري الصهيوني ورعاته على جانبي الأطلسي. الأمر الذي يستدعي التذكير بأم المجازر في ذكراها الستين.

فدير ياسين تعتبر البوابة الغربية للقدس، إذ تقع على الطريق إلى يافا، وبما لا يجاوز خمسة كيلومترات من قلب القدس الغربية، مركز الثقل الصهيوني. وكان مواطنوها يشعرون بحراجة موقفهم لأنهم لا يجاوزون 800 نسمة وسط مستعمرات يقارب مستوطنوها 150 ألفاً. فضلاً عن إسهامهم في ثورة 1936 ،1939 ومأثرتهم بالحفاظ على أراضيهم، إذ لم يبيعوا شبرا منها برغم الضغوط البريطانية والإغراءات الصهيونية. وحيث كانت ضمن منطقة القدس الدولية بموجب قرار التقسيم استجابوا لدعوة مخاتير المستعمرات المجاورة للاتفاق على عدم العدوان فيما بين الطرفين وقد التزم اهالي دير ياسين بذلك، كما تذكر الرواية الرسمية “الإسرائيلية” لحرب 1947 1948 (ص 254)، إلا أن شباب القرية لم يطمئنوا للاتفاق فاشتروا 60 بندقية ورشاشي “برن” وكمية من الذخيرة تحسبا للطوارئ.

وفي مخالفة صارخة للاتفاق هاجمت منظمتا “ليحي” و”الأرغون” الإرهابيتان دير ياسين، بالاتفاق مع دافيد شلتيئيل، قائد “الهاجاناه” في منطقة القدس، الذي فوضهما بذلك، وقدم لهما الدعم اللوجستي، وقام بمتابعة العملية من مركز قيادته في مستعمرة غيفعات شاؤول. ويذكر اسحق شامير في مذكراته أن قادة “الهاجاناه” وان لم يشاركوا في العملية لم يعارضوا تنفيذها، بل وطلبوا أن يترك المهاجمون قوة في القرية لضمان عدم دخول قوة عربية إليها.

ولقد شن الهجوم 130 إرهابيا بالمصفحات ومدافع المورتر تدعمهم طائرة. إلا أن المصفحات لم تستطع اختراق الحواجز المقامة على مدخل القرية، وارتدت بعد أن تكبد المهاجمون خسائر فادحة. وبرغم أنهم أعادوا تنظيم صفوفهم وعززوا قواتهم ارتدوا ثانية. ولما كان المدافعون لا يجاوزون 80 شابا بأسلحة خفيفة، طلبوا النجدة من عين كارم، حيث توجد سرية من “جيش الإنقاذ”. إلا أنها لم تنجدهم ولا حتى زودتهم بالذخيرة التي طلبوها، كما لم ينجدهم أهالي عين كارم المعروفون بالشجاعة والنخوة. إذ كان الطرفان أسرى اليأس والإحباط الشائعين بعد استشهاد الحسيني وسقوط القسطل في اليوم السابق. فاستنجدوا بالجيش البريطاني، ورجال الشرطة العرب، والصليب الأحمر الدولي، إلا أن أحدا لم ينجدهم. وبعد أن نفذت ذخيرتهم بدأت المجزرة في الساعة الثانية والنصف بعد الظهر.

وكان أول شهودها جاك دي رينر، رئيس الصليب الأحمر الدولي في فلسطين الذي ادانها بشدة. وقد جاء في تقرير مساعد المفتش العام لشرطة الانتداب ريتشارد كاتلنج، عن المجزرة أن عددا من التلميذات اغتصبن أو ذبحن، ومزقت جثث الأطفال، وانتزع حلي النساء من زنودهن وأصابعهن، وبترت آذان بعضهن لانتزاع أقراطهن. فيما بلغت جرأة “الوكالة اليهودية” على التاريخ التبرؤ من الجريمة وإدانة مقترفيها “الذين شوهوا شرف السلاح اليهودي وشرف العلم اليهودي” كما ورد في بيان رسمي اذاعته الإذاعة الصهيونية.

وكان بعض الناجين قد قابلوا د.حسين الخالدي، ممثل “الهيئة العربية العليا” بالقدس، ورووا له تفاصيل المجزرة، وانه سقط منهم 400 شهيد، اغلبهم من الأطفال والنساء، وأوقعوا بالعدو كثيرا جدا من القتلى. ولكنه في البيان الذي أصدره أفاض بإبراز بشاعة المجزرة، ولم يذكر مقاومة شباب دير ياسين وإيقاعهم بالعدو خسائر فادحة. ظنا منه انه بذلك يستثير الرأي العام العالمي ونخوة الأنظمة العربية. فيما يقرر بهجت أبو غربية، أحد قادة “الجهاد المقدس” في منطقة القدس يومها: “أكد لي من أثق بهم من أهل القرية أن عدد القتلى العرب كان نحو 90 وان عدد القتلى اليهود كان يقرب من ذلك”.

والذي لم يأخذه في حسبانه د. الخالدي، والذين روجوا أخبار المجزرة وزادوا عما ورد في بيانه، واقع الحالة النفسية للجمهور العربي بعد استشهاد عبدالقادر الحسيني، القائد الذي كان يراهن عليه، وفك الحصار عن القدس الغربية بسقوط القسطل. بحيث كان بيان الإثارة كارثيا بما أشاعه من رعب وهلع صب في قناة ما كان مستهدفا من “التطهير العرقي” الصهيوني. ولقد دفع شعب فلسطين غاليا بسبب بيان لم يصدر عن تقدير واع للموقف.

فضلا عن أن مصدر البيان ومروجيه لم يكونوا يجهلون أن لا الرأي العام الأوروبي والأمريكي، ولا الدول العظمى ممن يتأثرون بالبيانات العاطفية، أو تحركهم مآسي شعوب العالم الثالث إذا لم يكن مستطاعا استغلالها في الأغراض الاستعمارية، خاصة والضحايا عرب فلسطينيون ومقترفوا المجزرة الشنعاء صهاينة. فضلا عن أن د. الخالدي، وله تاريخه المشهود في الحراك الوطني الفلسطيني، كان يعرف تمام المعرفة عمق ارتباط صناع القرار العربي بالقوى الاستعمارية وعميق تأثرهم بتعليمات لندن وواشنطن.

وأن تأتي الذكرى الستون لمجزرة دير ياسين والملتزمون بالممانعة والمقاومة خيارا استراتيجيا هم القوة التي يحسب حسابها العدو الصهيوني ورعاته على جانبي الأطلسي، ففي ذلك الدلالة على أن مجازر حرب 1947 ،1948 التي قرنها المؤرخ البريطاني ارنولد توينبي بجرائم النازية بحق اليهود، لم تفت بإرادة شعب الصمود التاريخي والممانعة الأسطورية. فضلا عن درسي المجزرة المتمثلين بعدم التزام الصهاينة بما يتفقون عليه. وبالآثار الكارثية لبيان الاستثارة بضرورة التعاطي بموضوعية مع أخبار الصدامات الراهنة، خاصة إبراز تأثيرها لدى العدو. أخذاً بالحسبان أن الأمة العربية اعتادت امتصاص آثار العدوان ودحر الغزاة مهما بلغ تقتيلهم وتدميرهم، فيما كان عدم تمكين العدو من الشعور بالأمن والاستقرار عاملا جوهريا في تطهير الأرض العربية من دنسه.
"الخليج"

التعليقات