31/10/2010 - 11:02

محمد بن راشد والاستثمار في الإنسان../ الفضل شلق

محمد بن راشد والاستثمار في الإنسان../ الفضل شلق
أُعلِن منذ بضعة أشهر عن مؤسسة عربية رصدت بلايين الدولارات «للاستثمار في بناء الانسان». الشيخ محمد بن راشد أعلنها «في اطار الاهتمام الكبير... بالشأن العربي والاقليمي ومتابعة سموه لتقارير التنمية الانسانية». اكتشف سموّه، كما قال، ان «هناك ضرورة الى قيام مؤسسة تهدف الى تقديم حلول عملية ومنهجية لهذا التراجع ببناء جسر فعال لعبور الفجوة المعرفية التي تعاني منها المنطقة اليوم». وقد اكتشف ايضاً الحاجة «الى توفير 80 مليون فرصة عمل جديدة خلال العقدين المقبلين»؛ فهو يعرف مشاعر الاحباط الناجمة عن الاخفاقات السياسية والاقتصادية في عالمنا العربي» ويعرف حجم «الاستهدافات التي تتعرض لها منطقتنا».

اغلب الظن ان الشيخ محمد لو ادرك معنى ما قاله لما قاله؛ فالاستثمار في بناء الانسان يجعل من العرب موضوعاً للفعل.
هذا الكلام سمعناه سابقاً حين جاء الاستعمار وجعل من شعوبنا موضوعاً لفعل التقدم الذي وعدونا به. اعتبرونا قاصرين كمجتمعات. رأوا عندنا فجوة معرفية وعجزاً ثقافياً. أُحبطوا للحالة الرثة التي كنا نغوص فيها. اضطروا لفرض الانتداب علينا، في انتظار ان نبلغ سن الرشد. بالطبع لم نبلغ سن الرشد الا عند قيام دولة اسرائيل. مع قيام دولة اسرائيل بدأوا إعطاء دول المشرق العربي «استقلالات»، وهمية. شاء بعض القادة ان تكون الاستقلالات حقيقية فكان العدوان الثلاثي على مصر في ايام عبد الناصر. تلا ذلك حرب كل بضع سنوات.

رأونا متخلفين فاستحقينا الانتداب (أي الاستعمار). بالغنا في التخلف فاستحقينا اسرائيل. كان التخلف مستداماً فاستحقينا الحروب المتتابعة. اخيراً نفد صبرهم من استدامة المقاومة والممانعة اللتين اعتبروهما تخلفاً، فكان احتلال العراق وتدمير دولته، الى تفكيك مجتمعه. والبقية تتبع.

لا نقول ان «التخلف» العربي مؤامرة غربية، معاذ الله من ذلك. لكننا سئمنا على مدى القرن الماضي من القوى والجهات التي تدين هذا المجتمع العربي. لا نستثني من ذلك النخب الثقافية العربية والاحزاب والحركات السياسية التي ما انفكت تنوء على هذا المجتمع بمختلف اشكال النضال، بما في ذلك الانقلابات والحكومات العسكرية، «من اجل انتشالنا من هذا الفقر والجهل والمرض».

ما نريده هو ان يعترف احد بنا بما نحن عليه، بعُجرنا وبُجرنا. وهذا اساس قضية الديمقراطية: ان يسعى الحكام والاحزاب الى التعبير عن مجتمعهم وليس تغييره. نريد حداثة لا تحديثاً. نريد من يعبر عن وجدان وعواطف وحاجات هذا المجتمع كما هي. نريد باختصار من يعترف بهذا المجتمع، من يقدِّر له حق العيش كما يريد. نقول لهؤلاء الذين يريدون ان يغيرونا قبل ان يعترفوا بنا، والذين لا يعترفون بنا قبل ان يعاد تشكيلنا حسب الصورة المرسومة في اذهانهم، نقول: بما انكم لا تحترمونا كما نحن فإنكم لن تحترمونا عندما نصبح غير ما نحن عليه. نريد من يعترف بنا كعرب وكمجتمع وكبشر نستحق الحياة والاحترام قبل تغييرنا وقبل أن نصير حسب المثال الاعلى المطلوب. بعد ذلك، لا نلزم لهم ولا يلزمون لنا.

ان افضل ما قيل في العروبة هو ما قاله عزمي بشارة في كتابه الاخير «في المسألة الديمقراطية» وهو ان المسألة العربية (العروبة) والديمقراطية مسألة واحدة لا مسألتان. ليسا وجهين لقضية واحدة، بل الواحدة منهما هي الأخرى بعينها.

ومن يعترف بالناس يحترمهم ولا يتعالى عليهم، لا يتعالى على افكارهم، من يستمد فكره وعقله من وجدانهم وحاجاتهم وآلامهم وعذاباتهم، سوف يوافق على هذا القول. اما الذين يعتقدون عكس ذلك فهم ولا شك سيعملون على تغييرهم، وسيعبرون عن احتقارهم للمجتمع بالدعوة الى تغييره. لا نقول ان كلا منا يجسد الحق والحقيقة، لكننا نقول ان مجتمعنا حقيقة يجب احترامها.

نعرف ان كل شيء يتغير. ونعرف ان كل مجتمع يتطور. التغير والتحول هما الامر الطبيعي. لا تحوي الطبيعة شيئاَ لا يتغير. المجتمعات البشرية كلها تتغير. ما نطالب به هو ان يُتْرَكَ الامر للمجتمع كي يتغير دون قسر واجبار، ودون محاولات لحشره في صورة يرسمها مسبقاً من بيده الامر، او نخب واهمة تظن ان بيدها الامر.

العروبة بالنسبة لنا هي الهوية التي لا يجوز ان تكون مشروطة. كلما تساءل واحدنا بينه وبين نفسه: لماذا انا عربي؟ هل انا عربي؟ ماذا يعني ان اكون عربياً؟ هل العروبة معطى تاريخي؟ او هل هي مشروع للمستقبل؟ هي كل هذا واشياء اخرى. المهم ان نتماهى مع هذا المجتمع. وهذا المجتمع يعتبر نفسه عربياً. ومن يشترط عليه ان تكون عروبته حضارية او عروبة متجاوزة للفجوة المعرفية او حداثوية او غير ذلك، فإن الشروط هي موضع الاعتراض. وجدان الناس اكثر جدارة بالاحترام من عقل النخب الثقافية والسياسية. والعلاقة مع وجدان الناس هي جوهر المسألة الديمقراطية، وكل الشروط الموضوعة على العروبة هي قاعدة للقسر الذي يجر الى القمع الذي يجر الى الاستبداد الذي يجر الى الديكتاتورية والشمولية.

قال مايكل هدسون في كتابه «السياسة العربية» منذ اكثر من ثلاثين عاماً ان الامة العربية اكثر توحداً من اجزائها، اكثر توحداُ وانسجاماً من اي قطر عربي. نضيف على ذلك ان التجارب اللاحقة علمتنا ان العروبة هي ما يحمي وحدة كل قطر عربي. لطمأنة كل من لا يعتقد بالعروبة في كل قطر عربي، وهذا حقه، نقول ان حدود الدول لا تتغير منذ مؤتمر وستفاليا في عام 1648 الا في اعقاب حروب عالمية. ولكن ما يشكل خطراً على كل قطر عربي هو هذه الحرب العالمية على الارهاب والحرب العالمية المضادة باسم الاصولية. لن يكون بالمستطاع حماية حدود كل قطر عربي، كما حماية كل مجتمع عربي في الداخل، من الانقسام والتقاتل الا بالعروبة.

رحم الله من اطلق مؤسسة اتاحت التعليم العالي في جميع بلدان العالم لعشرات الالاف من الشباب. تخرج منهم ثلاثة وثلاثون الفاً. بينهم حوالي الالف من حملة الدكتوراة. لم يدع الى مؤتمر للمثقفين. لم يقف خطيباً بينهم. فعل ولم يقل سأفعل. كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري يرفض حتى ان تُشكل جمعية لطلاب مؤسسة الحريري. كان يريد لهؤلاء الطلاب الدعم المادي وحسب. وكان شعار المؤسسة «مستقبل لبنان ـ الاستثمار في الإنسان». وكان يريد حرية المعرفة للطلاب كما يرونها هم. كان يريد لهم ان يكون كل منهم «ذاتا» فاعلة تقرر لنفسها ولمكانها في المجتمع. ما اراد لهم ان يكونوا «موضوعاً» لشيء آخر.

ان دعم التعليم والبحث والدراسة من اجل توسيع اطار المعرفة هو أمر مشكور في كل مجتمع بشري. الفجوة المعرفية تعكس فجوة المداخيل المتنامية في المنطقة العربية. توسعة اطار المعرفة تساهم في مواجهة الحركات الظلامية وفي الوقت ذاته تمنح الناس فرصة لتجاوز اوضاعهم المعيشية وتضييق الفجوة الاقتصادية. لذلك فان تهنئة الشيخ محمد على مبادرته امر واجب، مع التمني له بالنجاح في مبادرته.

نعم إن النهضة العربية تحتاج إلى مبادرات، لأن المبادرات هي نقيض الإحباط واليأس. المسؤولية تقتضي التعامل بجدية، والجدية تقتضي النقاش المتبادل؛ بجدية أيضاً.
"السفير"

التعليقات