31/10/2010 - 11:02

محمود درويش... أين أحبوه وأين كرهوه !!../ د.أسامة الأشقر*

محمود درويش... أين أحبوه وأين كرهوه !!../ د.أسامة الأشقر*
لعل الآلاف يكتبون الآن عن محمود درويش، ويطمعون أن تنشر لهم المنابر والصحائف والمواقع مقالاتهم وخواطرهم وحكاياتهم. ولعل الملايين يتحدثون الآن عن رحيل درويش ويختلفون فيه بين ناقد منصف ومحب عاشق وكاره غضوب وعامي يتجه نحو الصخب الإعلامي دون أن يتبين حقائق الأشياء.

ولعلي من القلائل الذين كتبوا عن درويش ناقدين دون أن تغرقهم فيضانات الهالات الإعلامية التي تطوف بأمثال هؤلاء الأعلام، ودون انتقاص أيضاً من مقدراتهم الفنية التي حباهم الله بها. فدرويش واحد من الشعراء المهمين الذين أصبحوا علامة مسجلة في الأدب الفلسطيني، بل طافت شهرته ليصبح واحداً من أهم الشخصيات العربية الأدبية أيضاً. وكان نجمه لدى الغرب بدأ بالظهور والانتشار إلى أن عاجلته المنية، قبل أن يحصل على شارة الرضا الغربي بالحصول على جائزة نوبل للآداب التي ترشح لها عدة مرات.

وإذا قررنا في افتتاحية مقالتنا أنه لا انتقاص من شاعرية الراحل الكبير، فإننا لا ننسى لهذه القامات الكبيرة التي تتسع لها العيون أقل مما تضيق له عيون الناظرين إلى أديب مغمور، أنه توقف حيث ينبغي له أن يمشي، ومشى حيث ينبغي له أن يتوقف، ولمّا توقف لم يظل في توقفه متربصاً حتى انجلاء باعث التوقف بل سار في سبيل ٍ كان توقف له بإصرار.

وقبل اختتام حياته وقع شاعرنا الراحل في زلتين سياسيتين هبطتا به كثيراً في نفوس قطاع ليس بالقليل من الفلسطينيين الذين لا يرصد الإعلام آراءهم ولا يبحث عن مواقفهم ما دامت لا يعبر عنها في مواقف سياسية وتصريحات رسمية عن قياداتهم، رغم أنها منتشرة وحاضرة وهي تعبر عن نفسها الآن في منتديات إلتورنية صاخبة بالغضب مما زلّ به درويش :

الزلة الأولى كانت انحيازه إلى فريق سياسي في الانقسام الكبير الذي تعرض له الفلسطينيون منذ صعود حماس سياسياً ونيلها ثقة الجمهور الفلسطيني في الضفة والقطاع، ثم تصاعد الأحداث المؤسفة من اقتتال أهلي وانقسام سياسي طولي وعرضي، انتهى بحسم سياسي وعسكري في قطاع غزة لا تزال تداعياته تتجدد وتتكاثر.

فقد انبرى محمود درويش منذ الصعود السياسي والشعبي لحماس إلى مهاجمتها عبر توقيعه أولاً على بيان يدين منع إحدى البلديات التابعة لحماس في الضفة الغربية لحفل غنائي اعتبرته غير معبر عن أخلاق المجتمع الفلسطيني ويتسبب في انفلاتات غير مرضية في الشارع الذي يكون الشباب العاطل أو غير المتعلم في الغالب هم سادته الليليون، مما اعتبره درويش ظلامية في المنهج والتفكير والرؤية، ودعا إلى التمرد على هذا التفكير.

ثم بالغ درويش في انحيازه السياسي عندما هاجم قرار حماس بحسم المعركة ميدانياً لصالحها في قطاع غزة في مواجهة الأجهزة الأمنية الفلسطينية في قصيدته " أنت منذ الآن غيرك" والتي احتفل بها الفرقاء السياسيون في الجانب المقابل، واستغلوها سياسياً دون أي ردة فعل من درويش الذي أطلق رصاصته ومضى تاركاً للمختصمين أن يتقاتلوا ليس على قصيدته وجمالها الفني بل على موقفها وأدائها السياسي.

وليس خافياً أن هذا الموقف من درويش هو موقف سياسي فكري من الحركة الإسلامية عموماً، إذ إن محمود درويش نتاج مدرسة شيوعية انتمى لها ونشط فيها وسجن من أجلها، وقد أخذ عليه المتضررون من هذا التقييم الدرويشي أن رأيه يسير باتجاه واحد ولا يلتفت إلى كثرة التقاطعات وإلى ما يفعله الطرف الذي ينتصر له في شعره، كما أخذوا عليه انصرافه التام عن مآسي شعبه والكوارث الدموية التي ضربته على يد الاحتلال ولم يمسح دمعة أم ثكلى أو طفل يتيم أو يصطف مع هموم هذا الشعب ويبقى معه مناضلاً بشعره عنهم - كما يقولون -.

والزلة الثانية كانت في رحلته إلى حيفا بتأشيرة "إسرائيلية" ليلقي قصيدته تلك في تلك المدينة المحتلة منذ عام 1948 التي يعتبرها الاحتلال جزءاً من دولته التي يعترف العالم الظالم بها، وكان من جملة مستمعيه جمهور "إسرائيلي" نوعي ينظر إليه أنه الشخصية الثقافية الملائمة لبناء ثقافة التطبيع بين العرب واليهود من خلال هذه التقاربات الثقافية لما يمتلكه درويش من سحر وشهرة وتأثير، لاسيما أن عينه كانت تمتد إلى جائزة نوبل التي يتسلل إلى شروطها غير المعلنة على الحائز عليها أن يكون على حالة من المودة الظاهرة مع اليهود وكيانهم، وهو ما كان يصرح به درويش في شعره التسعيني والألفي بل صار يبتعد بلغة فنية حاسمة في مقابلاته الأجنبية عن المرحلة التي قدمته إلى العالم بوصفه أحد أبرز شعراء المقاومة والمعبرين عنها، رغم أن جمهوره فرض عليه في أمسيته الأخيرة في رام الله أن ينشد لهم قصيدته التي عرفوه من خلالها " أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي" كما عرفوه من قصيدة " سجّل أنا عربي"، ورغم أن محمود درويش كان يكره جداً أن يمسه أحد بأنه يحب نيل جائزة نوبل أكثر من حبه لتراب فلسطين لذلك هو يغازل "الإسرائيليين" فإنه ظل يحاول أن يحافظ على مساره الذي يكفل له استمرار الشعبية وأن يقترب بحذر وألمٍ من ضمانته "الإسرائيلية" لنيل تلك الجائزة، وقد عبر عن ذلك بوضوح أدبي في إحدى قصائده: "هنا قاتل وقتيل ينامان في حفرة واحدة ".

ويقع خلف ظلال جبال الثناء الهائلة والبريق المبهر ثلة من الجبهات النقدية التي تتبعت شعر درويش من زاوية فكرية وفلسفية وفنية ولديها آراء حادة حيناً تبلغ التطرف وهادئة حيناً آخر تنظر إليه أنه شاعر يمتلئ شعره بالإشارات التوراتية المجهولة المغزى المظنونة الهدف، كما نرى في كتاب " التوراتيات في شعر محمود درويش ".

كما نرى نمطاً من النقاد الأدباء يعتبرون أن الهالة التي ألقيت على درويش في مصدرها الأول كانت هالة اصطناعية لعبت القيادة السياسية في منظمة التحرير في تقديمها وتلوينها لأغراض دعائية تتعلق بالزعيم ثم ما لبثت شخصية درويش أن أكملت طريق الشهرة دون تدخّل من أحد لشدة حضورها وامتلاكها الأدوات اللازمة للاهتداء عبر علامات الطريق الواضحة، في الوقت الذي لم تُمنح تلك الفرصة "الحزبية" لشعراء متمكنين لا يقلون عن محمود درويش وشاعريته، مثل الراحل فواز عيد والشاعر الحاضر خالد أبو خالد.

ولعل أبرز محطة برز فيها درويش في حالته الاستقلالية هي في استقالته من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لئلا يشارك في الموافقة على اتفاقية أوسلو الظالمة عام 1993 وهو ما أغضب الرئيس الراحل ياسر عرفات جداً ولم يبال بقطع مخصصاته المالية، وكان عرفات يتحدث إلى مقربيه أن محمود درويش لا يستحق ما أعطاه له عندما قربه لحظة خروجه من فلسطين عام 1972 ثم جعله شاعر الثورة وأديبها بعد أن لمّعه الأديب الراحل غسان كنفاني في كتابه عن أدب المقاومة في الأرض المحتلة، ثم منحه عرفات النفوذ بأن جعله عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ويتحدث عرفات بغضب أنه لولا ما أتاحه له لما صار إلى ما صار إليه من شهرة وأنه لا يقبل منه ألا يوافق على ما يوافق عليه.

ولاشك أن محمود دروش قد تأثر بهذا الحصار المالي إذ إن للشهرة ضريبتها وتكلفتها العالية، ولاسيما لرجل يسعى نحو العالمية، وهو ما جعله يسير في الموضع الذي كان يجب أن يتوقف فيه طويلاً أو يعود؛ فرغم حديث درويش الدائم عن العودة ووجوب تحقيقها فإنه رضي بالعودة المنقوصة بقبوله الذهاب إلى بلدته المحتلة عام 1948 بموافقة إسرائيلية، ثم تجوّله في هذا الكيان "إسرائيل" الذي حاربه ورفض أن يعترف به، ثم ما لبث أن قرر التعامل مع واقعيته كما تعامل معه في مراحل النضال الأولى عندما شارك في حزب شيوعي "إسرائيلي" كان المنفذ الوحيد لأهل الداخل في المعارضة السياسية، ورغم أن جمهور درويش تغاضى عن خطيئة درويش هذه لمكانة درويش الكبيرة في قلبه وإن كان بقي يتمنى ألا يعود مجددا لكسر خاطره.

وعندما تنتهي الرحلة يبقى لنا أن نودع هذا الشاعر الكبير، وننظر إلى الأفق الذي يقترب منا لعلنا نظفر بتقديم أديب فلسطيني كبير يواصل تسجيل حضور هذا الشعب العظيم في معركته الطويلة مع الاحتلال، كما قال درويش نفسه في قصيدته "سيناريو جاهز": "وعلى شاعر آخر أن يتابع هذا السيناريو إلى آخره".

التعليقات