31/10/2010 - 11:02

مراجعة "السياسة".. أم البحث عنها؟!../ خليل شاهين*

مراجعة
قبل عام، كان الجدل يدور حول جدوى المشاركة الفلسطينية، ومن ورائها العربية، في مؤتمر أنابوليس، وقد فشلت قبله محاولات التوصل إلى "اتفاق إطار" أو "وثيقة مبادئ"... واليوم يعود الجدل إلى النقطة ذاتها: هل يتعين على المفاوض الفلسطيني أن يقبل باتفاق إطار، أو "رف"، أو وثيقة مبادئ، أو ربما ما دون ذلك؛ وثيقة تلخص "التوافقات التفاوضية" الفلسطينية الإسرائيلية؟!

ومثل هذا الجدل يدور "خارج السياسة" في الواقع، وتبقي الحالة الفلسطينية أسيرة الدوران في حلقة البحث عما يمد ما يعتقد أنه "كيان سياسي" فلسطيني بأسباب البقاء "على حاله"، بدل البحث عن خيارات بديلة "تغير حاله". وفي الواقع، يدور الجدل "خارج السياسة" لأنه لا توجد سياسة أصلاً. وبالإصرار على اعتبار "المفاوضات سياسة"، ثمة من "يغمس خارج الصحن".

قاد مسار أنابوليس للعودة إلى نقطة الصفر تقريباً.. جرى المفاوض الفلسطيني عاماً كاملاً في مسار دائري ليعود إلى نقطة الانطلاق الأولى: اتفاق إطار أو مبادئ، أو وثيقة مشتركة! ولا طائل من إبقاء الجدل يدور في الحلقة ذاتها، لا بد من إخراجه إلى فضاء أرحب في البحث عن خيارات بديلة تمكن من رسم إستراتيجية وطنية فلسطينية واضحة المعالم، أي تسمح بالفعل في "داخل السياسة" لا خارجها أو على هامشها.

ومع ذلك، هناك من يدعو إلى مراجعة "السياسة" الفلسطينية، من دون أن يشخص ماهية هذه "السياسة" إن وجدت، وهل المقصود ما يطلق عليه البعض "السياسة التفاوضية" أملاً باجتراح آليات تمكن من استمرار المفاوضات غداً كما هي اليوم؟ في الحقيقة، لا توجد سياسة لكي تتم مراجعتها، هناك "ممارسة" سياسية الطابع، لا تحكمها أو توجهها سياسة، بل مجرد مواقف تهدف للحفاظ على بقاء السلطة، أو ما تبقى من أطلالها، وعلى بقاء قيادة تندب حظها وهي تجهد في ترميم هذه الأطلال.

إذن، ليس المطلوب إعادة مراجعة "السياسة التفاوضية" غير القائمة أصلاً، بل البحث عن سياسة فلسطينية، ولا يعني استمرار دعوات المراجعة، من داخل الدائرة العبثية ذاتها، سوى البحث عن آليات للتكيف مع ما هو أسوأ، أي مع نتائج السياسة الإسرائيلية، ومؤثرات العوامل الإقليمية والدولية. وهذا ما يحدث اليوم مع وصول مسار أنابوليس إلى لحظة تعيد إلى الأذهان مصير كامب ديفيد الثانية في نهاية ولاية الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون.

ألا تعني "الوتوتات" المتداولة وراء الكواليس حول كيفية التعامل مع خطة أولمرت للحل الانتقالي، وورقة الترتيبات الأمنية المرفقة معها، أو "اتفاق الرف"، أو "اتفاق الإطار"، وحتى الوثيقة المشتركة، تعبيراً عن ممارسة سياسية لا توجهها سياسة واضحة، فتنحو للتكيف في نطاق من يملك في المقابل سياسة تتوفر لها أدوات تحقيقها على أرض الواقع؟ أليس كل ما سبق عبارة عن اقتراحات وأفكار تلقاها الجانب الفلسطيني دون أن يكون له فضل ابتكار أو تقديم أي منها؟ ثم ألا يعكس البحث عن "آليات" لاستمرار التفاوض دون التسلح بخيارات بديلة، استعداداً للتكيف مع مثل هذه الاقتراحات والأفكار، لتنكشف مجمل الحالة الفلسطينية على مزيد من المخاطر التي تهدد القضية الوطنية؟

"تغييب السياسة" هو المسؤول عن الأداء التفاوضي الأشد بؤساً منذ رحيل الرئيس ياسر عرفات، وربما كان ذلك وراء ما يشاع عن فتح أكثر من قناة تفاوضية خلال العام المنصرم، إحداها "غير معلنة" مع حاييم رامون، نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي، وانتهت إلى فشل بعدم وصولها إلى نتائج لا تختلف في جوهرها مع ما عرضته وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني على رئيس طاقم المفاوضات الفلسطيني أحمد قريع، أو مع ما عرضه رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت في قناته الثنائية مع الرئيس محمود عباس... ضربات فلسطينية عشوائية في كل الاتجاهات، أنهكت مجمل الحالة الفلسطينية، ربما قبل أن تقطع أنفاس المفاوض الفلسطيني وتسهم في تآكل الموقف التفاوضي، بل وتحوله في أحسن الأحوال إلى "مواقف تفاوضية" تختلف فيما بينها، وتشيع أجواء من التشكيك بين بعض المفاوضين أنفسهم بشأن مدى صلابة موقف كل منهم!

في هذا المسار "اللاسياسي"، ينفتح الباب أمام إدعاء انتصارات لم تسجل، في مقدمتها الترويج لصمود المفاوض الفلسطيني خلال ما أسماه البعض "الاشتباك التفاوضي"، فيما كانت السياسة الإسرائيلية تحصد "الانتصارات" على أرض الواقع، استيطاناً وتهويداً وجداراً وترسيخاً للانقسام الفلسطيني.

وفي "حديث الإنجازات"، لا تقيم نتائج المفاوضات فلسطينياً في رفض المفاوض لما لا يمكن قبوله أصلاً، بل في نتائج السياسة التي تقف من ورائها، فالمفاوضات ليست سياسة بقدر ما هي محطة تستثمر فيها النتائج التي تحققها السياسة على أرض الواقع، وعندما يتم تغييب السياسة في الواقع لا تجد المفاوضات ما تحصده في غرف التفاوض.

وإذا كان يصح القول إن ما يجري داخل غرف التفاوض هو تعبير عن مستوى توازن القوى خارجها، أي ما تفرضه السياسة من وقائع، فلا بد أن تقيم الممارسة السياسية للسلطة وأداء مفاوضيها ليس فقط بمجرد رفض ما يعرض داخل غرف التفاوض، بل وبحجم الإخفاق في مواجهة السياسة الإسرائيلية على أرض الواقع. ولا شك في أن مستوى تقدم تنفيذ مشروع الرؤية الإسرائيلية للحل النهائي في شمال الضفة الغربية وغربها وشرقها، وفي قلب مدينة القدس ومحيطها، إنما يقدم أدوات لقياس مستوى الإخفاق الكارثي الذي أفضى إليه الأداء التفاوضي المتآكل في ظل تغييب السياسة، بما كان يجب أن تتضمنه من رؤية قادرة على مواجهة تطبيقات المشروع الإسرائيلي على الأرض، لا التكيف معها، وقادرة على إدراك حقيقة أن النجاح في التفاوض على قاعدة الانقسام لم يكن إلا ضرباً من الخيال.

لقد ذهب الرئيس الراحل عرفات إلى مفاوضات أوسلو، وظل متمسكاً بما يعرف بـ "البرنامج الوطني"، ثم خاض الجولات التفاوضية تباعاً وصولاً إلى كامب ديفيد، وظل متمسكاً أيضاً بهذا البرنامج، دون أن يتحول مشروع السلطة إلى دولة، فيما كانت إسرائيل ترسم حدود الكيان الفلسطيني داخل أوسلو مع بعض التعديل. وفعل الرئيس عباس الأمر ذاته؛ أعاد الكرة دون أن يلتفت إلى أن استمرار تغييب الإستراتيجية الوطنية التي تتضمن خيارات لا تحشر الفلسطينيين في دائرة التكيف مع "الممكن إسرائيلياً"، لن يعني في نهاية المطاف سوى الحكم بالموت على آفاق تحقيق "البرنامج الوطني" القائم على حل الدولتين، حتى وإن ظلت القيادة الفلسطينية تتمسك به "نظرياً" في خطابها السياسي.

هكذا؛ بالنتائج التي يلمسها المواطن الفلسطيني يومياً خارج غرف المفاوضات، فيما تسحب أرض "الدولة" من تحت قدميه، يجب أن تقيم الممارسة السياسية لقيادة لا بد أن تتحمل المسؤولية عما قادت شعبها إليه.

التعليقات