31/10/2010 - 11:02

مرة أخرى نسأل: من قتل "بينظير"؟/ جميل مطر

مرة أخرى نسأل: من قتل
أستطيع أن أؤكد أننا بسبب ما نتوقع وقوعه في باكستان خلال الأيام والأسابيع المقبلة سنستمر نسمع إجابات متعددة، كل إجابة منها تشير إلى جهة أو تثير الشكوك حول شخص أو جهاز معين ولكننا لن نعرف، على وجه اليقين، الإجابة الصحيحة.

لا أقول هذا اعتمادًا على تجربة لبنان المعاصرة أو تجارب عديدة في التاريخ الحديث للصراعات الدولية وتحالفات أو خلافات أجهزة الاستخبارات وعصابات الجريمة الدولية، ولكني أقوله اعتماداً على الظروف المحيطة بالصراع الدولي على منطقة وسط آسيا ومداخلها، وأحد أهم هذه المداخل باكستان، واعتماداً على حالة باكستان الراهنة وبخاصة هرولة معظم مكوناتها القبلية والعرقية والسياسية نحو حافة الانفراط، وأقوله اعتماداً على بينظير ذاتها باعتبار أنها، وهي السيدة السياسية الناضجة والعالمة ببواطن أمور السياسة الداخلية والدولية، اختارت أن تفعل كل ما من شأنه أن يكون بمفرده سببًا كافيًا لاغتيالها، وكان كثيراً ما فعلته.

لن نعرف يقينًا من يقف وراء اغتيال بينظير، ومازالت الاجتهادات كثيرة. يلمح الرئيس بوش إلى القاعدة والإرهاب الإسلامي. ولدى هذا الرئيس سبب “مشروع” ومقنع يدفعه للإسراع في اتهام الإرهاب الإسلامي، فالحزب الجمهوري لم يجد بعد القضية المناسبة التي تجلب له شعبية بين الناخبين الأمريكيين، وتمحو في الوقت نفسه السمعة السيئة للغاية لفترة حكم الجمهوريين تحت رئاسة بوش. وأظن أن قيادات الحزب لن تتوانى خلال الشهور القليلة القادمة عن الزج بالإرهاب في كافة القضايا الدولية والداخلية لإنعاش حالة الرعب لدى الشعب الأمريكي وإثارة الخوف من الإرهاب الإسلامي فتزداد فرص فوز جون ماكين المرشح الجمهوري.

أما بينظير نفسها فقد وجهت أكثر من مرة الاتهام لجهاز الاستخبارات الباكستاني، حرصت بذلك قبل وصولها إلى باكستان في أكتوبر الماضي وكررت التحذير وبخاصة في أعقاب المحاولة الأولى لاغتيالها. وكان الاتهام في وقته قابلاً للتصديق لدى أطراف عديدة، فالعلاقة بين هذا الجهاز وعائلة بوتو علاقة قديمة ودموية. ومازال الإعلام الدولي يشير بأصابع الاتهام إلى الاستخبارات الباكستانية استنادًا إلى أنها كانت الجهة التي تقاوم باستماتة عودة بينظير بوتو ونواز شريف إلى باكستان خوفًا من أن يعودا في إطار خطة أمريكية تهدف إلى إقامة شكل من أشكال الحكم الديمقراطي، وتقييد نفوذ أجهزة الأمن الباكستانية وحريتها في العمل داخل باكستان وخارجها. وقد قرأنا لخبراء دوليين في الشؤون الاستراتيجية ما يشير إلى أن هذه الأجهزة رغم ارتباطاتها الوثيقة جداً بالاستخبارات الأمريكية إلا أنها كثيرًا ما تعمل لحسابها الخاص ورؤيتها الخاصة للمصلحة الباكستانية، حتى وإن تعارضت هذه الرؤية أحيانًا مع المصالح الاستراتيجية الأمريكية.

وهناك من يشيرون إلى مصلحة أمريكية في دفع الأمور في باكستان نحو حال أقرب إلى الفوضى. يعتقد هؤلاء أن المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية لم يستثنوا باكستان من خططهم إثارة حالات من الفوضى، على أمل أن تخلق هذه الفوضى أوضاعاً جديدة لصالح الغرب، وأمريكا تحديداً. ولا شك في أن أمور باكستان منذ بدايات عام 2007 تسير في هذا الاتجاه، فالحملة الإعلامية والسياسية على حكومة باكستان وأوضاع البلاد الداخلية ذهبت إلى مدى بعيد، والتشدد الديني متصاعد والاشتباكات بين المتشددين والقوات المسلحة تتضاعف وضحاياها يزدادون عدداً، والمعارك بين القبائل في المناطق المتاخمة لأفغانستان والجيش متواصلة. وتأكد مرة أخرى عجز الحكومة المركزية في إسلام أباد عن فرض إرادتها على كامل الأراضي الباكستانية. وعلى الرغم من هذه المشكلات وتدهور الأوضاع الاقتصادية عامة تضغط حكومة واشنطن على الرئيس مشرف متعمدة الانتقاص من مكانته وسلطاته أمام الشعب وبشكل خاص أمام قاعدته الأساسية وهي المؤسسة العسكرية، إذ استمرت تطالبه بخلع ملابسه العسكرية وبإعادة بينظير ونواز وبالسماح لقوات أمريكية بالتمركز في مناطق القبائل. هذه الضغوط والمناورات كانت كافية في نظر البعض، لإتاحة الفرصة أمام جهات غاضبة من الضغط الأمريكي ومستفيدة من “حالة الفوضى الخلاقة” لاغتيال بينظير.

يبقى مثاراً وبقوة اتهام بينظير نفسها بأنها كانت سبباً كافياً ومحفزاً قوياً لاغتيالها. المؤكد أنها لم تنتحر. ولم تسع إلى تدبير عملية الاغتيال، ولكنها تعمدت أن تفعل أشياء وتدلي بتصريحات وتثير عداءات قديمة وتستفز أطرافًا جديدة وتقيم اتصالات وتنظم مؤتمرات وتقود مظاهرات، تتحدى بها بجسارة أو جنون كل خصومها، كما لو كانت تتحداهم أن يقدموا على اغتيالها. القائمة طويلة إلى جانب أنها مثيرة.

فقد أصرت السيدة بينظير على عدم الاعتذار عن عمليات الفساد التي جنت من ورائها أموالا طائلة هي وزوجها الملقب سخرية ب “المستر”. لم تعلن التوبة ولم تطلب من الرأي العام الباكستاني أن يغفر لها. ورفضت الاعتذار عن الجرائم التي ارتكبتها حكومتها في الثمانينينات والتسعينات ضد حقوق الإنسان وعمليات التعذيب التي مارستها قوى الأمن في عهدها، ولا اعتذرت عن أساليب حكمها الديكتاتوري التي ورثتها عن والدها “ذو الفقار علي بوتو”.

تقول قيادات المجتمع المدني في باكستان إن السيدة بينظير، وهي من أوائل السيدات اللاتي تولين مسؤولية الحكم في العالم النامي، لم تفعل شيئاً إيجابياً يذكر للمرأة في باكستان. وبالتأكيد، وهي سليلة الثراء الهائل، لم تحاول تحسين أحوال الفقراء أو تضع نظاماً للرعاية الاجتماعية والصحية. كانت على الدوام مترفعة عن مشكلات الفقر ولم تقدم حلولاً لها. بل على العكس من ذلك حافظت على نظام الاقطاع السياسي، الذي ابتدعه والدها، حيث نقل تقاليد الاقطاع الزراعي إلى الساحة السياسية، وربط الملايين من البشر في ولاية السند بعائلته يخضعون لها ولإرادتها. مستخدمة آلة الانتماءات والولاءات البدائية ورافضة تحديثها وهي خريجة جامعات إنجلترا ونجمة صالونات أوروبا.

قد تبدو هذه الصورة ل بينظير مختلفة تمامًا عن صورتها في الغرب. عرفوها في الغرب ابنة اكسفورد المتحضرة التي تختلط بكبار شخصيات أوروبا وأمريكا. وتتحدث معهم عن تطوير بلدها وتحديثه، وارتفعت أسهمها خلال العام الأخير في الإعلام الغربي حين بدأت تتحدث عن أمور ثلاثة أو أربعة تكاد تكون مترابطة ولكن كافية لأن تكسب بها حب الغرب وكراهية قطاعات واسعة في بلدها، وتمنت أن تعود لتحققها، تحدثت عن ضرورة القضاء على التيارات الدينية المتشددة في باكستان. متناسية أنها هي نفسها التي دعمتهم لتستفيد منهم ضد خصومها السياسيين، وبخاصة ضد المؤسسة العسكرية وشعب إقليم البنجاب.

نيتها تسليم عالم الذرة عبد القادر خان إلى الأمريكيين و”الإسرائيليين” لاستجوابه ومحاكمته وهو الطلب الأمريكي الذي رفضه، ومازال يرفضه حتى لحظة كتابة هذه السطور، الجنرال برويز مشرف والمؤسسة العسكرية الباكستانية.

استعدادها تطبيع العلاقة مع “إسرائيل” والاستعانة بقوات الأمن “الإسرائيلية” لحمايتها وحماية عائلتها. وهي الأمور التي تحدث عنها مندوب “إسرائيل” دان جيلرمان لدى الأمم المتحدة بعد عشاء جمعه بها قبل عودتها إلى باكستان. وجدير بالذكر أن مشرف بدأ بالفعل خطوات على طريق التطبيع خلال رحلته الأخيرة في دول الغرب.

استعدادها السماح للحكومة الأمريكية بإنزال قواتها الخاصة في الأقاليم الشمالية في تحد واضح لإرادة المؤسسة العسكرية الباكستانية وإرادة القبائل البشتونية، ونيتها توثيق عرى التحالف مع أمريكا، هذا التحالف المدني الذي يعتقد بات بيوكانان، المرشح الرئاسي الأسبق في الولايات المتحدة عن الحزب الجمهوري، أنه السبب المباشر وراء كراهية أغلبية الشعب الباكستاني لبينظير، وهي الكراهية التي أسقطت أو أودت بحياة حلفاء آخرين مثل ضياء الحق، والسادات، وشاه إيران، وفرديناند ماركوس.

غامرت بينظير أو قامرت بعودتها. كانت تعرف أنها ستكون أداة تستخدمها أطراف مشتركة في لعبة دولية هي الأخطر منذ وقت طويل، وفي منطقة هي الأهم استراتيجياً لأمد طويل. تصورت أنها تستطيع بعودتها أن تستخدم اللعبة ولاعبيها لمصلحتها. خسرت بينظير الرهان لأنها لم تقدر أن الزمان ليس زمانها والناس ليسوا ناسها.
"الخليج"

التعليقات