31/10/2010 - 11:02

مستقبل الإسلام السياسي../علي العبد الله*

مستقبل الإسلام السياسي../علي العبد الله*
فتحت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في واشنطن ونيويورك، والعدوان الأمريكي على أفغانستان، تحت ذريعة محاربة الإرهاب، مع ما رافقها من طروحات فكرية /سياسية تلصق الإرهاب بالدين الإسلامي، ملف الإسلام السياسي: طبيعته، برامجه، مستقبله... الخ. حيث صدرت دراسات كثيرة في الشرق والغرب حول الإسلام السياسي تباينت في تقييمه بين القول بـ”أفول” نجمه والقول بحتمية “انتصاره وتحقيقه لأهدافه”.

لقد أغرى انهيار حركة طالبان وعناصر تنظيم القاعدة السريع أمام الهجوم الأمريكي على أفغانستان، وما نشر حول استعدادات الولايات المتحدة لملاحقة ما تسميه “الإرهاب” في ستين دولة، أغرى البعض لإطلاق أحكام قطعية وحاسمة حول مستقبل الإسلام السياسي، حيث اتفق عدد من الدارسين، غربيين وعرب ومسلمين، على القول بهزيمته وانتهاء أمره.

غير أن قراءة أخرى مختلفة ممكنة، وتمتلك مشروعية، ذلك بأن إصدار أحكام قطعية في شأن الإسلام السياسي ليس بالأمر السهل بسبب الطبيعة المركبة والمعقدة لهذه الظاهرة التي تتداخل فيها العقيدة السياسية مع عقيدة المجتمع الدينية من جهة، ولارتباط صعود تيار الإسلام السياسي بدعاوى الرد على مخططات الغرب الاستعماري التي تريد بالمسلمين شرا من جهة ثانية، وبسبب فشل تيارات سياسية غير إسلامية في تحقيق نجاحات سياسية واقتصادية تسمح بطرح رؤى بديلة. وهذا زاد من درجة التفاف الشارع في الدول الإسلامية حول حركات الإسلام السياسي التي نجحت في توجيه ضربات قوية لهذا المستعمر، ودغدغت مشاعر المسلمين بالقول إنها ستعيد لهم أمجادهم من جهة ثالثة.

وقعت الدراسات التي حكمت بـ”أفول” نجم الإسلام السياسي في أخطاء عدة أولها: أنها تسرعت في الحكم على ظاهرة الإسلام السياسي في ضوء نتائج الهجوم الأمريكي على أفغانستان، ولم تتريث لترى نهاية المعركة حيث نشهد اليوم عودة حركة طالبان إلى المسرح السياسي والعسكري بقوة.

وثانيها: الحكم على المواجهة في ضوء النتائج الميدانية المباشرة في أفغانستان دون النظر إلى الأفق الذي فتحته حركات الإسلام السياسي على امتداد العالم. صحيح أن قسما من هذه الحركات قد ضرب من قبل سلطات بلاده، لكنها لم تفقد شعبيتها بين أبناء مجتمعها، وهذا يجعلها خياراً قائماً.

وثالثها: تجاهل هذه الدراسات للدور السلبي الذي لعبه ربط الحملة الأمريكية الدين الإسلامي بالإرهاب، ما أثار حفيظة المسلمين في دول العالم الإسلامي والتي عبرت عن موقفها بالانخراط في العنف، من اندونيسيا إلى المغرب مرورا بمصر والأردن وإسبانيا والمملكة المتحدة والسعودية والجزائر واليمن، والانتساب إلى القاعدة وتأييد عملياتها ضد الأمريكيين في كل مكان.

وقد زاد من عدم صدقية هذه الدراسات وإثارة ريبة المسلمين فيها قفزها من الحكم على فشل الإسلام السياسي كتيار إلى الحكم على عدم أهلية الإسلام لمواجهة قضايا الحياة المعاصرة: بناء الدولة الحديثة، العلاقة بين الشريعة والمشرعين، وبين الشريعة والواقع. إنها لم تميز بين النص وبعض قراءاته التي حولته إلى دوغما بائسة، ولم تسع إلى وضع النص ومحتواه في موقعهما الطبيعي، حيث عد النص الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يثبت الضرر، وحدد للمجتمع أطرا عامة بهدف تحقيق الحرية والعدل والمساواة وترك للمجتمع تحديد محتوى الحرية والعدل والمساواة حسب ظروف المكان والزمان، وعوّل كثيراً على فطرة الإنسان في اختيار المناسب (استفتِ قلبك ولو أفتوك)، وانزلاقها الدراسات إلى موقف وصائي بالدعوة إلى إخراج الإسلام من السياسة عبر حركة “نهضة” و”تنوير” تقود إلى “روحنة” الإسلام جعله ممارسة روحية صرفة وتحوّله إلى علاقة فردية بين العبد وربه وإلى فصل الدين عن الدولة.

إن مأزق هذه الدراسات الرئيس هو موقفها المسبق من الإسلام السياسي وترحيبها بالهجوم الأمريكي عليه، الهجوم الذي وجدت فيه فرصة لتصفية حساب مع خصم سياسي وعقائدي فأخذت مكانها في مراسم دفنه والمساهمة في نثر التراب على قبره، بالهجوم عليه فكرياً وسياسياً من دون أن تميز بين أطيافه، وبين تحفظها السياسي والفكري عليه من جهة، وقراءة الإسلام بموضوعية وحيادية من جهة ثانية. إنها وهي “الديمقراطية” و”العلمانية” لم تعترض على برنامج واشنطن في فرض ما سماه توني بلير “الإسلام العادي”، أي الذي يقتصر على أداء العبادات فقط، على المسلمين عبر السعي إلى تحديد وفرض ما يدرسه طلاب المدارس الدينية، وما يتناوله خطباء المساجد أيام الجمع والأعياد والمناسبات الدينية الأخرى، ولم تدافع عن حق الاختلاف والتعددية الثقافية على مستوى العالم.

الواقع أن برنامج واشنطن المذكور قد برهن أنه وصفة مثالية لتكريس تيار التشدد في الإسلام السياسي، لأن العدوان والقهر والهيمنة تدفع الإنسان ليس إلى المقاومة فحسب، بل الى العناد وإعطاء العقل إجازة طويلة، ولأن موقف الوصاية يستفز الشعوب ويجعلها ترفض كل ما يأتي به الوصي، ولأن الهجوم على عقيدة جماعة ما يدفعها إلى التمسك بهذه العقيدة بغض النظر عن محتواها وتناقضاتها، ولأن وضع كل حركات الإسلام السياسي في سلة واحدة ومحاربتها والعمل على اجتثاثها فكرياً وجسدياً يعمل لمصلحة تعميم التشدد والعنف الدموي، وآية ذلك ما حصل في بلاد عربية وإسلامية، حيث سحقت حركات معتدلة في الإسلام السياسي فأوجدت حاضنة ممتازة لتفريخ حركات متشددة وتكفير وهجرة. فقد عادت حركة طالبان وتنظيم القاعدة، بل وفرخت عشرات المجموعات المتشددة، واتسع نطاق العنف الوحشي وتعمقت الكراهية وعدم التسامح.

تستدعي محاربة التشدد والتطرف لدى جماعات من الإسلام السياسي أولا تمييز الإسلام عن الحركات الإسلامية، كي تتحاشى استفزاز المسلمين، وتستدعي ثانيا التمييز بين الحركات المتشددة والحركات المعتدلة وفسح المجال للأخيرة للعمل العلني لأنه وسيلة مثلى في احتواء التشدد وتجفيف منابعه، فالاعتراف بهذه الحركات والسماح لها بالعمل السياسي الشرعي يعد بداية لممارسة إيجابية ستقود إلى الانفتاح والتطور.

وتستدعي ثالثاً التخلي عن ذهنية الوصاية الحضارية والعلمية وترك الشعوب تتعاطى مع الواقع وتدرك ضرورة التغيير من خلال سياقها الخاص، فقد قاد تعميم أحكام نمطية على الأديان، حيث لم تميز دراسات كثيرة بين الإسلام وبقية الأديان، والدعوة إلى “نهضة” و”تنوير” بالمطلق إلى رفض هذه الدعوة واعتبارها دعوة مريبة والتمسك بانطلاق النهضة والتنوير من الواقع المحلي وضرورة التعاطي مع “النهضة” و”التنوير” من منطلق إسلامي لتكون نهضة إسلامية وتنويراً إسلامياً ينبعان من الإسلام ذاته. وتستدعي رابعا ليس إسدال ستار خادع على مستقبل الإسلام السياسي، بل إيجاد مناخ إيجابي لإنتاج مناخات التسامح والتعاون والمحبة. وتستدعي خامساً وأخيراً صياغة فقه إسلامي جديد، فقه عصري، يستجيب لاحتياجات الناس، فقه يتسق مع إيمان المجتمع ويجنبه معارك جانبية لا طائل منها.
"الخليج"

التعليقات