31/10/2010 - 11:02

مطالب التغيير في دولة أخرى../ جميل مطر

مطالب التغيير في دولة أخرى../ جميل مطر
زرت تايلاند ثلاث مرات. خرجت بعد كل زيارة من الزيارات الثلاث مقتنعاً بأن هذه البلاد تخضع لإرادة ملك قوي يستمد قوته من نظام ملكي عتيد يحظى باحترام النخبة السياسية والجيش وعامة الناس.

كان صعباً، من خلال زيارات قصيرة، الحكم بدرجة الاستبداد في هذا النظام. ومع ذلك كانت، ومازالت، تسيطر على تقديري لمثل هذه الأمور، فكرة استحالة وجود حاكم، ملكاً كان أم رئيساً، أتاح له الدستور سلطات فائقة وسمحت له ظروف البلد أن يستعبد ولم يستعبد. قد يختلف معي صديق هنا أو كاتب هناك حول عدم جدوى النقاش لمعرفة إن كان الحاكم مستبداً عادلاً أم مستبداً ظالماً، فالاستبداد في رأيي نوع واحد، ولا يهم إن كان المستبد طيب القلب وكريم الخصال وحسن النوايا.

تكونت عندي، من قراءات وزيارات ومتابعات إخبارية عن تايلاند، انطباعات استمرت سنوات. ساعد في تكوين هذه الانطباعات، أو ربما أثر فيها أكثر من غيرها، عاملان أولهما أنني كنت ذات يوم، ومازلت معجباً بالفيلم السينمائي بعنوان “الملك وأنا” المأخوذ من المسرحية الغنائية الشهيرة التي بقيت تحتل مكانها في مسارح نيويورك عقوداً عديدة. كان خيال الكاتبين خصباً، ولكنهما قدما بالفعل صورة قريبة من واقع الحياة في البلاط الملكي التايلاندي، حيث إرادة الملك لا تعلو عليها إرادة وكلمته لا ترد، وفي النهاية يقع الملك أسير الرقة والقدرية والجمال شأنه شأن أي إنسان عادي.

أما العامل الثاني الذي ساعد على تكوين انطباعاتي عن بلاد سيام فكان أهلها. ظللت لفترة طويلة منذ زيارتي الأولى أعتقد أنه لم يخلق شعب آخر بالطيبة والدعة والنعومة التي يتسم بها الشعب السيامي، رجاله ونساؤه على حد سواء.

رأيتهم في الريف التايلاندي وسط حقول الأرز الغارقة معظم الوقت تحت المياه، ورأيتهم في الجبال والغابات يزرعون الفواكه المدارية، كما رأيتهم في المدينة الكبيرة صاحبة الصيت الذائع والليل الساحر، ولكن أيضاً صاحبة سمعة الرطوبة الفائقة. هناك في هذه المدينة حيث ترتفع البنايات الحديثة إلى عنان السماء وقد شيدت في غير نظام، تماما كما يتحرك الزحام في الشوارع بغير نظام حتى تكاد من فرط الزحام والتنوع في شارع معين تنسى هوية المدينة والناس. ترى كافة وسائل النقل التي يمكن تصور وجودها، ولكن يستحيل أن تتصورها متجمعة في مكان واحد، إلا ربما في بعض المدن المصرية، وإن عاشت حتى عهد قريب من دون “التوك توك”، هذا الاختراع السيامي الأشهر. لا أذكر أنني عندما كنت أمشي وسط هذا الزحام مختنقاً بالرطوبة ومنبهراً بالابتسامات التي تكتسي بها كل الوجوه، أن شاهدت يوماً اشتباكاً أو مشاجرة أو خناقة بصوت عال. كنت أقول، لعلها البوذية وكانوا يقولون إنها الاحترام المتبادل بين البشر.

حلت العولمة وكتب توماس فريدمان الكاتب الأمريكي المعروف عن وصولها إلى أرصفة بانجكوك حيث النساء كبار السن يفترشن الإسفلت وأمامهن تصطف علب مالبورو المهربة أو المرخصة. كان فريدمان منبهراً بالعولمة وبخاصة بالتغيير في سلوكيات أهالي جنوب آسيا ومنطقة الخليج العربي.

كان مؤمنا بأن العولمة الطريق الوحيدة المتاحة لنهضة شعوب آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط. هو الآن مهتم بالهند والصين، ولا يشير إلا عابراً إلى تايلاند وإندونيسيا وماليزيا، الدول التي ركز اهتمامه عليها في عقد التسعينيات. ليته يزور بانجكوك الآن حيث يعسكر في وسطها عشرات الألوف من نساء ورجال يرتدون قمصاناً حمراً ويطالبون بالتغيير.

بدأت حركتهم مسيرات واعتصامات احتجاجية لأسباب اجتماعية واقتصادية، وتطورت إلى مطالب بحل البرلمان وإجراء الانتخابات. ثم نزل الفلاحون إلى المدينة، ومدن أخرى، يطالبون بأكثر مما يطالب به فقراء المدن حتى بات واضحاً أن في البلاد فتنة طبقية سياسية، طرف فيها يمثل الطبقة الحاكمة وطرف آخر يمثل فقراء تايلاند.

يقول خبراء في شؤون تايلاند إن السنوات الأخيرة شهدت انقسامات طبقية خطيرة تجاوزت كل الحدود، حتى إن أحدهم وصف الاعتصام طويل الأمد في وسط بانجكوك بأنه “كوميون باريس” يبعث مجدداً بعد قرن ونصف القرن في آسيا. ويقول خبير آخر إن المسألة أبسط من كل هذه التبريرات الطبقية، فما يحدث في بانجكوك حاليا، ورغم سقوط قتلى عديدين واغتيال قوات الجيش لضابط منشق انضم إلى المتظاهرين، لا يزيد على أن الفساد استشرى في البرلمان حتى فقد دوره وثقة الشعب به، ولم يجد الناس بديلاً من الخروج إلى الشارع لعرض مطالبهم.

أتصور أن عناصر اجتمعت على امتداد السنوات الأربع الماضية فشكلت التربة الصالحة لنشوب تمرد شعبي واسع. من هذه العناصر انفراط الإجماع الوطني واتساع الفجوة بين طبقة رأسمالية توحش بعض أطرافها، وطبقة من الفقراء ازدادوا فقراً وتنافس على كسب ودها سياسيون متخاصمون. إلا أن العنصر الأهم كان التغير الذي أصاب مكانة ملك البلاد. كان الملك يحكم ويملك، وكانت له شعبية فائقة، وكان يقوم بدور خصص له في مرتبة ما فوق المؤسسات الدستورية والتقليدية، وهو التوسط بين القوى الاجتماعية والسياسية وحل المشكلات التي تنشب بينها.

كان الملك، على امتداد فترة حكم تجاوزت أربعة وستين عاماً، القوة الحقيقية في الدولة قبل أن يفقدها لاعتبارات أهمها التقدم في السن، إذ إنه مع تقدم الملك في السن وضعف صحته ولأهمية مكانته في الدولة حاولت كل الأطراف استخدام مكانته وتزييف قرارات وتوجيهات صادرة باسمه. وحاولت المؤسسة العسكرية التدخل باسمه مرات معتمدة على تجارب سابقة حين كان الملك يستخدمها فعلاً للتدخل وحسم الخلافات كما حدث في عامي 1973 وفي،1992 وحاولت “البيروقراطية الملكية” التدخل باسمه مراراً لتثبيت مصالحها وزيادة ثرواتها.

نشأت “البيروقراطية الملكية” من تحالف بين رجال القصر وعائلة الملك وبعض رجال الأعمال وعدد من كبار المسؤولين في الدولة. كذلك حاولت التدخل باسمه قيادات نقابية وفلاحية باعتبار سمعته كنصير الفقراء وحامي مصالحهم من جشع الطبقة الحاكمة.

في كل الأحوال، تدهورت حال الملك إلى حد لا يسمح له بالتدخل الفعال الأمر الذي جعل القوى السياسية تفكر في رفع مستوى مطالبهم إلى مطلب تغيير النظام القائم، بمعنى إلغاء الملكية كنظام حكم. بل إن وزير الخارجية كاسيت بروميا خرج أمام حشد من الأكاديميين في جامعة جونز هوبكنز بواشنطن قائلاً إنه “يجب أن تتوفر فينا الشجاعة لنناقش بصراحة مستقبل النظام الملكي في بلادنا. لقد تعود الشعب لمدة طويلة على أن يقوم الملك بحل المشكلات. حان الوقت لينضج هذا الشعب ويحل مشكلاته بنفسه ويفكر في إصلاح النظام الملكي كمرحلة أولى ليكون أكثر اتساقاً مع عصر العولمة بإيجابياتها وسلبياتها”.

لن تفيد عودة ثاكسين شيناواترا رئيس الوزراء المنفي ذاتياً هرباً من عقوبة السجن وصاحب الشعبية الفائقة بين الفلاحين. الناس عامة قد يحنون إلى عصر أو مرحلة معينة، ولكنهم يتمنون في قرارة أنفسهم ألا يعود العصر أو المرحلة. يكفيهم صيتها رصيداً في معركتهم من أجل التغيير.
"الخليج"

التعليقات