31/10/2010 - 11:02

مطلب تعجيزي تفجيري../ علي جرادات

مطلب تعجيزي تفجيري../ علي جرادات
مطلب إعتراف الفلسطينيين بـ"يهودية دولة إسرائيل"، الذي قذفه أولمرت في وجه المفاوض الفلسطيني، عشية لقاء "أنابوليس"، هو بمثابة قنبلة مِن العيار الثقيل، الذي لا يؤكد فقط أن الحكومة الإسرائيلية ليست في وارد التسوية السياسية للصراع، بل يشي أيضا بضخامة ما تصبو لفرضه مِن إبتزازات، في ظل ما تراه في صالحها مِن ميزان قوى دولي وإقليمي ومحلي. فتمسك القيادات الإسرائيلية بالطابع اليهودي لدولة إسرائيل، هو ليس بالأمر الجديد، إذ منذ البدايات الأولى للصراع، وبفكرِ هرتزل ومخالب بن غوريون، وكل مَن تبعه مِن قيادات إسرائيلية، استمات الإسرائيليون، وما زالوا يستميتون، في السياسة كما في الحرب، مِن أجل تكريس "يهودية دولة إسرائيل" كـ"مقدس" صهيوني. وبكل ثمن ووسيلة، حاربت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وفي كل المجالات، أيةَ أطروحات مِن شأنها المسَّ بهذا "المقدس.

وبالتالي، فإن لا جديد في مطلب أولمرت، سوى محاولته كممثل رسمي لسائد السياسة الإسرائيلية، إبتزازَ الفلسطينيين أولا، والعرب ثانياً، وبقية العالم ثالثاً، مِن خلال مطالبتهم بتبني الرؤية الصهيونية وروايتها، وتجريعهم مرارات الإعتراف بـ"مقدساتها"، وهي العنصرية الإجلائية الإقتلاعية على أية حال، ما يشير ألى أن أهداف صون الطابع "اليهودي لدولة إسرائيل"، والحفاظ عليه في وجه العامل الديموغرافي الفلسطيني، لم تعد مجرد أهداف إسرائيلية ثابتة، تحدد المخططات الإسرائيلية الإستراتيجية، بل أصبحت بمثابة هاجس يومي يسكن القيادات الحالية لدولة إسرائيل، تماما كما سكن مؤسسوها الأوائل، وهو ما أفضى إلى ما أرتكب بحق الفلسطينيين مِن تطهير عرقي قلَّ نظيره، وأدى إلى تشتيتهم في أرجاء المعمورة الأربعة، فضلا عن إبتلاع أرضهم. وللمرء أن يتخيل ما ينطوي عليه مطلب أولمرت مِن سعار وعنجهية وطموحات خيالية، تقضي بفرض معتقداته الصهيونية، لا على ضحاياها الفلسطينيين فقط، بل وعلى العالم أجمع أيضاً، بكل ما يعنيه ذلك مِن عدوانية عنصرية، تتجلى على الأرض يومياً، في ممارسات قمعية استباحية بحق الفلسطينيين، وتنعكس في إجراءات تمزق أرضهم، وتجعل منها معازل منفصلة، ويتمثل آخر هذه الإجراءات وأخطرها، في الإقدام على بناء جدار الفصل العنصري النهبي، وذلك رغم أنف ما يلاقيه مِن معارضة دولية واسعة، ناهيك عن محاولة تعميق وتكريس وإطالة أمد فصل غزة عن الضفة، الهدية المجانية التي جاء بها جنون الحسم العسكري للسلطة في غزة، في ظل ظرف دولي قاسٍ، تحركه الإدارة الأمريكية، الداعمة على بياض للرؤية الإسرائيلية ومواقفها، وفي كنف حالة عربية مفككة، لا تقوى على تقديم اسناد جدي للعامل الوطني الفلسطيني، الذي زادته الشروخ والإنقسامات الداخلية سوءاً على سوء، وفتكت بطاقته على الصمود والمواجهة، الأمر الذي يشجع أولمرت وخلافه مِن القادة الإسرائيليين، على الطموح غير المشروع في تبني الضحية لرواية جلادها، أي الطموح الخيالي في أن يصبح الفلسطيني صهيوني.

على ما تقدم، فإنه، ليس غريباً البتة، بل مِن الطبيعي جداً، أن يتركز اتجاه ضربة السياسة الإسرائيلية، التي يمثلها أولمرت هذه الأيام، على محاولات نيل الإعتراف بـ"يهودية دولة إسرائيل"، أي على محاولات إنجاز خطوات نوعية على طريق الشطب الرسمي لحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى ديارهم وفقاً للقرار الدولي 194، هذا فضلاً عن محاولة تجريد مَن تبقى منهم على أرضه خلف الخط الأخضر، مِن كونهم سكان الأرض الأصليين، ومحاولة انتزاع ترسيم اعتبارهم مواطنين مِن الدرجة الثانية أو الثالثة، بما ينطوي على تسويغ أية إجراءات عنصرية ضدهم، كالطرد الجماعي مثلاً، فيما لو سنحت الفرصة، أو كان ذلك ضرورياً لإستيعاب موجات هجرة يهودية جديدة، ذلك أن الإعتراف بـ"يهودية دولة إسرائيل"، يعني في أهم ما يعني، أن الأرض الفلسطينية هي ملك لليهود أينما وجدوا، وبالتالي فإن مِن حق كل واحد منهم الهجرة اليها، والإستيطان فيها، في أي وقت يراه مناسباً، وليس فقط في أية ظروف سياسية دولية وإقليمية مؤاتية.

وبالمناسبة، فإن النوايا الإسرائيلية تجاه فلسطينيي 1948، هي نوايا معلنة وليست مكتومة، ومِن باب التدليل لا الحصر، جدير التذكير بما قاله عام 1987 شموئيل توليدانو، الذي عمل مستشاراً للشؤون العربية لرئيس الوزراء الإسرائيلي، (بمعزل عن لونه الحزبي)، مدة سبعة عشر عاماً، يومها قال توليدانو هذا بالحرف: "هؤلاء العرب الذين عاشوا بين ظهرانينا مدة أربعين عاما، لم يعودوا حطابين وسقاة، بل أصبحوا عرباً وفلسطينيين أيضا".

هكذا بلا خجل أو وجل أو رتوش، وكأن الفلسطينيين ليسوا أصحاب البلاد الأصليين. وكذا فعل ديسكين رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي العام قبل شهور، بفظاظة عنصرية، حين أعلن أن العرب الفلسطينيين خلف الخط الأخضر يشكلون خطرا إستراتيجيا على دولة إسرائيل. ولعل الأبلغ مِن هذا وذاك، هو ما كان أعلنه باراك مرة بالقول: "دولة إسرائيل إما أن تبقى دولة يهودية، وإما أن تصبح كومة نووية".

بلى، فإن الإختلال الهائل في ميزان القوى بالمعنى الشامل للكلمة، فضلاً عما يعانيه الوضع الوطني الفلسطيني مِن انقسام غير مسبوق، يشكل أرضية خصبة لتنامي الضغوط الإسرائيلية على الفلسطينيين، ومحاولات تطويعهم وتجريعهم ما لم يقبلوا به طيلة ما يقرب مِن قرن مِن الزمان، وهو ما لا أظن أنهم سيقبلوه في يوم مِن الأيام، بصرف النظر عن تمايزات طيفهم الفكري والسياسي، التي لن تصل حدَّ الإختلاف على كون الفلسطيني ليس صهيونياً، آخذين بعين الإعتبار أن تجربة عقود مِن الصراع، قد أثبتت أن الرحم الفلسطيني لم يلد تياراً سياسياً شعبياً يقوى على القبول بتزييف حقائق التاريخ والجغرافيا، ذلك أن هنالك فرق هائل، وبون شاسع، بين المساومة والمرونة في السياسة، وبين سحبها على التاريخ والجغرافيا، بل إن تمادي الإسرائيليين الى درجة مطالبة الفلسطينيين بذلك، كما يفعل أولمرت، عبر مطالبة الفلسطينيين الإعتراف ب"يهودية دولة إسرائيل"، إنما ينذر بإضاعة كل فرصة ممكنة لتسوية الصراع، ويشي بإعادته الى المربع الأول، ودفعه خطوات كبيرة ونوعية الى المجهول مِن آفاقه، بما يتجاوز كل تفكير عقلاني واقعي لتسويته، وهذا بقدر ما يخبيء للفلسطينيين مِن ويلات وتضحيات إضافية، فإنه، وربما بذات القدر، يفرض عليهم النهوض ثانية في خط تشبثهم التحرري بحق العودة والإستقلال الناجز والحرية التامة، فالمناخات التيئيسية ومظاهر فقدان الأمل والإلتباس التي تُضخ في الوعي الفلسطيني، على سوئها، تبقى عاجزة عن المساس بجوهر الهوية الوطنية التحررية وأهدافها العادلة، يغذي هذا الجوهر تراكمات المسيرة النضالية وجمرات التضحية التي لم تنطفئ والتيارات العريضة القابلة للإشتعال، الأمر الذي سيلد المبادرات الشعبية، والمبادرات الطليعية مِن كل طراز، كردٍ على العنجهية الإسرائيلية، التي فاقت كل تصور في مطالبها التعجيزية، التي تشكل مطالبة أولمرت الفلسطينيين الإعتراف بـ"يهودية دولة إسرائيل" ذروتها، ولا تبقي أمام الفلسطينيين مِن خيار غير خيار الصمود والمواجهة. فمطالب أولمرت وأشباهه مِن الساسة الإسرائيليين، ناهيك عمن هم على يمينه في الخارطة الحزبية الإسرائيلية، لا تفعل سوى إدارة ظهر الفلسطينيين الى الحائط، وهو الأمر الذي قادهم، وفقاً لقراءة تجربتهم الطويلة، الى تجديد طاقاتهم، والمضي قدماً على طريق استعادة ولو الحد الأدنى مِن حقوقهم المشروعة، كما نصت عليها قرارات الشرعية الدولية، التي تتعارض بصورة مطلقة مع مطلب أولمرت الأخير، التعجيزي والتفجيري في آن.

التعليقات