31/10/2010 - 11:02

مطلوب مبادرة سياسية من "حماس"../ خالد الحروب*

مطلوب مبادرة سياسية من
مهما كان سوء الأوضاع في قطاع غزة قبل قرار «حماس» العسكري بالسيطرة عليه عبر القوة، فإن ذلك لا يبرر تلك الخطوة الخطيرة. فالمعضلة الأساسية فيها أنها أرادت أن تعالج وضعاً أمنياً فخلقت وضعاً سياسياً معقداً. وكما هو حال أي قوة عسكرية تتصرف بعيداً عن تقدير الموقف السياسي بدقة فإن المحصلة النهائية تنتج ما لم يكن في الحسبان، وغالباً ما تصبح الأمور أعقد من تلك التي أرادت أن تحلها. ولهذا وبسببه فإن أساس التسيس المدني هو سيطرة القيادات السياسية والمدنية على القيادات العسكرية، وهذا ينطبق على الدول وجيوشها وعلى الأحزاب وتنظيماتها المسلحة. و»حماس» التي أقر سياسيوها بأن قرار السيطرة على غزة عسكرياً لم يكن قرار قيادتها السياسية بل قرار عسكرييها الميدانيين تدين نفسها عوض أن تبرئها. وهي تثير شكوكاً عند الأطراف الأخرى، الفلسطينية والعربية والدولية، حول قدرة القيادة السياسية في المستقبل على ضبط «تفاقم» القوة العسكرية لـ «حماس».

في سنواتها العشرين الماضية كانت «حماس» قد أظهرت قدراً كبيراً من الانضباط التنظيمي والتراتبية الحزبية أبرز ما فيه خضوع العسكري للسياسي فيها. لكن الخطوة الأخيرة تشير إلى أن إنقلاباً واضحاً في ميزان القوى الداخلي قد حدث بحيث تم تحييد القيادة السياسية لفترة محددة ريثما أتم العسكريون مهمة السيطرة على كامل القطاع. وسوف تتعرض «حماس» بالتأكيد إلى سؤال دائم في مستقبلها السياسي وعند كل اتفاق أو حوار داخلي أو خارجي حول مدى التزام جناحها العسكري بأي أتفاق تتوصل إليه قيادتها السياسية.

لكن الأسئلة الأهم من ذلك تتعلق بانعكاسات خطوة «حماس» على المشروع الوطني الفلسطيني برمته، وهي اسئلة برسم الإجابة من قبل «حماس» (كما من قبل «فتح» وسائر الطيف الفلسطيني عامة). وإلقاء الضوء على هذه الاسئلة التي هي برسم الإجابة على «حماس» ليس معناه إعفاء الطرف الآخر، «فتح» والرئاسة الفلسطينية، من مسؤولية الإجابة عن مجموعة أخرى ملحة من الاسئلة الخاصة بهم. لكن هذه المعالجة تتأمل في انعكاسات الخطوة الحماسية على وجه التحديد. بل ربما هناك أسئلة أكثر صعوبة يجب أن تتعامل معها «فتح» والرئاسة الفلسطينية، ومن الجدير أن يتم تناولها في مقاربة منفصلة.

أول هذه الأسئلة وأعقدها هو: ماذا بعد؟ فالآن وقد تحققت لـ «حماس» السيطرة التامة على قطاع غزة ما هي خطوتها التالية؟ والإجابة المطلوبة هنا يجب أن تكون متعلقة بتقديم أفق سياسي، وليس مرافعات أمنية تثبت أن الأوضاع في قطاع غزة أصبحت اليوم من ناحية أمنية أفضل مما كانت عليه في السابق. لا جدال في أن التردي الأمني الذي أصاب قطاع غزة في السنوات الأخيرة أصبح أولوية ملحة، لكن هناك أولويات أخرى لا تقل أهمية، أولها الوضع السياسي العام للقطاع والتحامه مع الضفة الغربية. ليست هناك حاجة إلى ذكاء استثنائي للاستنتاج أن فصل الضفة عن القطاع وتفتيت الكيانية الفلسطينية هو حلم ومصلحة اسرائيلية واستراتيجية دائمة. وليست هناك حاجة إلى ذكاء استثنائي للاستنتاج أن خطوة «حماس» تخلق انقساماً سياسياً وجغرافياً وديموغرافياً في فلسطين لم يسبق له مثيل سواء شاءت «حماس» ذلك أم لم تشأ. حتى قبل هذه الخطوة كانت كل الدلائل تشير إلى أن اسرائيل ماضية في فصل عملي على الأرض وعلى كل الأصعدة. وكل من زار معبر إيريز في شمال غزة بين القطاع واسرائيل يدرك أن ذلك المعبر ليس حاجزاً حدودياً عادياً، بل هو حدود دولية مترسخة تحمل رسالة واضحة هي أن هذه المنطقة يجب أن تُفصل عن بقية الأراضي الفلسطينية.

معنى ذلك أن السؤال السياسي وليس الأمني ولا الفصائلي هو السؤال الأهم في هذا السياق. ومعنى ذلك أن مسألة شيوع الأمن والأمان في قطاع غزة تحت حكم «حماس» لا تجب أن تكون مفتاح المرافعة الحماسية. ولا يجب أن يكون مفتاحها أيضاً القول بأن تنظيم «حماس» كان سيتعرض لهجوم من قبل «فتح» وما قامت به «حماس» هو خطوة استباقية. فماذا تستفيد القضية الفلسطينية لو تحقق الامن في قطاع غزة الذي يحظى به شعب السويد، مقابل أن تنفصم غزة عن الضفة؟ أو مقابل أن يتحول القطاع تدريجياً إلى كيان مجتزأ محاصر دولياً يتحول إلى شيء قريب من كوريا الشمالية؟

السؤال الأخر المهم متعلق بمسألة، أو وهم، «تحرير القطاع». ومشكلة هذا الوهم أنه ينشر شعوراً خادعاً داخل أوساط «حماس» وحولها بأن السيطرة التامة على الشارع الغزي معناها تحرير القطاع كلياً أو نسبياً من القبضة الاسرائيلية. ويقود هذا إلى تضخم في الذات الفصائلية بعيد عن الواقع العملي على الأرض، يصلب الموقف بلا معنى ضد الأطراف الفلسطينية الأخرى. اما اسرائيل، ودفعاً لهذا الوهم فما تزال تتحكم وتسيطر على قطاع غزة. فهي تسيطر على المعابر الحدودية، وتسيطر على سماء غزة وعلى بحرها. والأهم من ذلك والأخطر منه أنها تسيطر على لقمة عيش الغزيين اليومية، إذ أن ماء وكهرباء وتموين قطاع غزة يأتي من إسرائيل. لكن كل هذا يتم وفق مقايضة تثير أسئلة إضافية من جهتها.

والسؤال الأهم الذي تثيره هذه المقايضة يتعلق بـ «المقاومة». فما هو مقروء من الوضع الراهن هو توقف صورايخ القسام عن ضرب المستوطنات الإسرائيلية (وطبعاً توقف العمليات الانتحارية) مقابل وصول إمدادات الأغذية والماء والكهرباء الى قطاع غزة عن طريق إسرائيل. والسؤال هنا هل كان هدف «المقاومة» طيلة تلك السنوات هو تأمين وصول هذه الأساسيات إلى القطاع، ولهذا فهي تتوقف الآن عن عملياتها؟ وألم تكن تلك التأمينات تصل قبل هذه المرحلة وكانت تؤمنها السلطة الفلسطينية التي عارضتها «حماس»، كما كانت المعابر مفتوحة ولو بشكل متقطع؟ ليس هذا معناه مطالبة «حماس» باستئناف ضرب تلك الصواريخ أو استخدام العمليات الانتحارية، فكلتا الوسيلتين أضرت بالقضية الفلسطينية بشكل فادح. لكن التساؤل هو عن غموض مسألة «المقاومة» التي تطرحها «حماس» وأهدافها ومعناها ومتى تتوقف ولماذا ومع من؟ والسؤال المرتبط بـ «مقاومة» حماس هو عن برنامجها السياسي وما هو بالضبط في المرحلة الراهنة وكيف يتطابق مع سيطرتها على القطاع؟

السؤال الآخر الذي أقلق ويقلق شرائح عريضة من الفلسطينيين هو حول مستوى العنف والقتل الذي مارسته خلال عملية سيطرتها على المقرات الأمنية والقطاع بشكل عام. وما نقلته وسائل إعلامها سواء فضائية «الأقصى» أو المواقع الألكترونية التابعة لها. فإذا كانت «حماس» تعيب على الأجهزة الأمنية وبعض تيارات «فتح» إستخدام العنف ضدها فقد تساوت في أعين الفلسطينين مع من هاجمتهم. لكن الخطر الإضافي في حالة «حماس» هو مسألة استخدام الخطاب الديني التكفيري والفتوى في تبرير «القتل والقصاص»، فهذا يُدخل الصراع الفلسطيني في دوامة جديدة تقترب من حدود العنف المجنون الدائر في العراق. فهنا تصبح الفتوى الدينية هي طريق القتل بدم بارد وبضمير مرتاح، لأن القتل هنا يصبح تنفيذاً لواجب ديني. وفي الوقت الذي من الممكن أن يلاحق القاتل العادي احساس بالذنب والخجل، أو أن يتردد أصلا عن ممارسة القتل لأسباب مختلفة، فإن الممارسة نفسها تصبح أكثر سهولة عندما تتدخل الفتاوى الدينية التي يصدرها مجانين الحروب الأهلية.

معنى ذلك كله أن «حماس» مطالبة بالانشغال بالأساسيات السياسية الكبرى وليس فقط الانهماك في الترويج للهدوء الأمني في القطاع على أهمية ذلك للمواطنين ولسير الحياة هناك. و «حماس» مطالبة بتقديم تصور من لدنها للخروج من مأزق ومصيدة الانقسام الفلسطيني. وكما أن منطق رفض الحوار من قبل الرئاسة الفلسطينية هو أمر مرفوض لأنه ببساطة غير منطقي، فإن منطق «حماس» في الدعوة إلى الحوار هكذا من دون طرح تصور مسبق ومبادرة هو الآخر غير منطقي. ما حدث في غزة ليس بالأمر الهين ويشكل انعطافة كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية ولحد الآن تسير الأمور نحو المجهول. ومن دون مواجهة الأسئلة الصعبة من قبل «حماس» والأجابة عليها، فإن ذلك المجهول سيلتهم ما تبقى من القضية الفلسطينية.
"الحياة"

التعليقات