31/10/2010 - 11:02

مع أمريكا وضدها../ د.سليم الحص

مع أمريكا وضدها../ د.سليم الحص
في لقاء مع أحد سفراء الولايات المتحدة الأمريكية السابقين، أدليتُ برأيي صريحاً في السياسة الأمريكية في لبنان والشرق الأوسط ناقِداً ومندّداً. فما كان من السفير إلا أن بادرني بالقول مستنكراً: إن كلامي ينمّ عن موقف معادٍ لأمريكا. فعقّبت متسائلاً: “كيف يمكن أن أكون معادياً لأمريكا وأنا في صف واحد و68 في المئة من الرأي العام الأمريكي. ألا تظهر استطلاعات الرأي في بلادكم أن نحو 68 في المئة من المستفتين يعارضون سياسة إدارة الرئيس جورج بوش في الشرق الأوسط؟ وأنا كذلك. أنا مع أمريكا الشعب وضدّ أمريكا الإدارة. هل أكثر من ثلثي الشعب الأمريكي ضدّ أمريكا؟”.

إننا بعبارة أخرى من المعجبين بالقيم الأمريكية ومن الرافضين ممارسات الإدارة الأمريكية في الخارج. والاعتراض هو من صلب الممارسة الديمقراطية التي تأخذ بها أمريكا.

القيم التي يلتزمها، لا بل يمجّدها الشعب الأمريكي داخل مجتمعه، هي الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة وسائر حقوق الإنسان في وطنه. أما بعض الممارسات المقيتة التي تقدم عليها الإدارة في سائر أرجاء العالم فمن عناوينها: قنبلتان ذريتان فوق هيروشيما وناكازاكي في اليابان، حرب كوريا، حرب فيتنام، واجتياح أفغانستان، واحتلال العراق، واحتضان العدوان الصهيوني على فلسطين منذ العام 1948 بما ترتب عليه من اغتصاب لأرض العرب وقتل سكانها وتشريدهم ومواصلة عمليات الاستيطان، وكذلك العدوان الصهيوني المتكرر على لبنان بما كان من اجتياح واحتلال وتشريد للأهلين وقتل الألوف منهم. ولا ننسى عمليات الإنزال التي نفذتها قوات المارينز في بعض بلدان أوروبا وأفريقيا وآسيا، وكان منها إنزال في لبنان. في هذه العمليات عرضت الدولة العظمى عضلاتها المتفوّقة، إلا أنها باءت فيها جميعاً بالفشل الذريع. فما كان للقوة الغاشمة نصر مبين، وما كان في هذه المغامرات سوى إظهار الدولة العظمى في مظهر المتحكّم السادر المعربِد، أي في صورة ما عُرف بالأمريكي البشع.

فهل نُلام إذا تصرّفنا، كما يتصرّف سائر الأنام المغلوبين على أمرهم، إذ نبدي إعجابنا بالقيم الأمريكية ورفضنا للسياسات الأمريكية في سائر أرجاء العالم؟ ما ذنبنا إذا كان للدولة العظمى وجهان متعارضان: وجه داخلي مشرق يزدان بقيم حضارية وضّاءة، ووجه قاتِم يتّشِح بسواد نهج القوة والبطش والعدوان والاستغلال؟ وكثيراً ما تتبدّى سياسة الاستغلال في عربدات عسكرية وراءها مآرب إقليمية أو اقتصادية. وليس ما يمنع أن يتم كل ذلك باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

كان بإمكان أمريكا أن تحكم العالم بالقيم التي تبشّر بها، ولكنها آثرت أن تستعدي العالم بالممارسات العدوانية. فالعالم كان منذ الحرب العالمية الثانية في القرن العشرين، ولا يزال، منشغلاً بأخبار العمليات العسكرية الأمريكية، وينشغل اليوم في حديث عن احتمال قيام الدولة العظمى، أو ربيبتها “إسرائيل”، بضربة عسكرية على المقاومة اللبنانية أو سوريا أو إيران.

نحن العرب كنا سننحني إجلالاً للدولة العظمى لو أنها تقصّدت تطعيم سياستها في منطقتنا بالقيم التي تتغنى بها، ومرساها الحرية: الحرية بالمعنى الذي يضمن حق الفلسطيني في تقرير مصيره، وحق اللاجئ في العودة إلى دياره التي اقتلع منها عنوة، وحق العراقي، وكذلك الأفغانستاني، في تقرير مصيره، وحق اللبناني في المصالحة بين أبنائه على قاعدة التوافق من دون أن تكون للقوة العظمى يد في ترجيح كفة على أخرى في الساحة الداخلية.

نحن العرب كنا سنعرب عن تقديرنا للدولة العظمى لو أنها عمدت إلى قياس المعطيات الدولية بمعيار واحد عادل، فلا يكون العنف الذي يمارسه الفلسطيني أو اللبناني أو العراقي دفاعاً عن أرضه وحريته وكرامته، إرهاباً، ويكون العنف الذي يمارسه الكيان الصهيوني قتلاً وتدميراً وإبادة دفاعاً عن النفس، ويكون العنف الذي تمارسه أمريكا بِلا وازع ولا رادع ذوداً عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

من المفترض أن يكون تيار العولمة المتنامي ظاهرة خيراً للإنسانية إذ ينزع إلى توفير السلع والخدمات لمن يحتاجها بأثمان تنافسية، وإذ يفتح آفاقاً بلا حدود لتنقل الطاقات البشرية والمالية والتكنولوجية بلا عوائق. وكانت العولمة ستكون مرادفة للأمركة لو أفلحت الدولة العظمى في التوفيق بين القيم التي يلتزمها شعبها والسياسات التي تنفذها الإدارة في الخارج. لو استطاعت الدولة العظمى التوأمة بين العولمة والأمركة على وجه سليم لحكمت الكون.

بفضل قيمها فرضت أمريكا احترامها على العالم، وبفعل سياساتها وممارساتها استفزّت العالم واستنفرته ضدّها. بهذا المعنى نجدنا، كسوانا من شعوب الأرض المتضررة، مع أمريكا وضدّها.

ومن يواكب الحملات الانتخابية في السباق الرئاسي الجاري هذه الأيام في الدولة العظمى، سرعان ما يصدمه واقع مُذهل: هو أن النظام الأمريكي لم يستطع أن يفرز قيادات وازِنة من عيار إبراهام لنكولن في التاريخ الأمريكي، أو من عيار شارل ديغول في التاريخ الفرنسي، أو من عيار ونستون تشرشل في التاريخ البريطاني. وليس بين مرشحي هذه الأيام للرئاسة الأمريكية من يوحِي بالجدارة لتسنّم قيادة العالم. ومع ذلك فإن الدولة العظمى مصرّة على قيادة العالم.

قد يُقال: كيف يمكن للبنان، هذا البلد الصغير، أن يقِف في وجه الدولة الأعظم في العالم. الجواب هو أن لا مردّ لإرادة الشعوب مهما ضؤل حجمها. هكذا فازت شعوب صغيرة كثيرة باستقلالها عن قوى مستعمرة كبيرة. وهكذا استطاع لبنان أن يمانع في تنفيذ قرارات دولية لم تكن في مصلحته، فلم يمتثل للقرار 1559 مثلاً في ما يتعلق بنزع سلاح المقاومة على الرغم من إصرار الدولة العظمى على تطبيقه منذ صدوره قبل أربع سنوات.

التعليقات