31/10/2010 - 11:02

مفاوضات وتهويد.. وتهدئة لا ضامن لها../ عبد اللطيف مهنا

مفاوضات وتهويد.. وتهدئة لا ضامن لها../ عبد اللطيف مهنا
لأن جميع الأطراف، وبلا استثناء تريدها، تحققت التهدئة، ولو مؤقتاً، على جبهة غزة. هاهي بعد طول تجاذب تعلن، وإن لا ضامن، أو حتى متفائل باستمرارها، ولو على مدى منظور، أو بقائها للمدة التي أعطيت لها كفرصة، أي الستة أشهر المعلن عنها... الفلسطينيون، مقاومون ومساومون، في غزة، ورام الله، والخارج معهما، كل يريدها من منطلقه، وقبولها كان من أغلبهم، وإن اختلفت درجات هذا القبول، بين المرحِّب والمتحفظ، الراضي والكاره، الراغب في إنجاحها والعازف عن إفشالها...

...والإسرائيليون أيضاً، وإن أدخلوا هذا القبول بدايةً في بازار المزايدات فيما بينهم، بعد أن وظّفوا إعلان قبولهم لها ابتزازاً للطرف المقابل إلى أبعد حد.
...والمصريون، أو سعاتها ومتعهدوها، ومعهم أغلب العرب، وكذا الأوروبيون، وطبعاً الأمريكان، الجميع يريدها، وكل من منطلقه، ولهذا كانت...

الفلسطينيون أرادوها من منطلقين، واحد شاءها متنفساً، يجيء تتويجاً لصمود شعبي أسطوري، واجه لعام أعتى حصاروتجويع شبه إبادي، يرافقه تقتيل وتدمير، واستفراد غاشم، في ظل تواطؤ دولي وعجز عربي، ورأى أنها تجيء كثمرة لمقاومة عنيدة في ظل انعدام توازن قوى أقرب إلى مناطحة الكف للمخرز، وفق المثل الشعبي السائر، أو كدليل على انتصار إرادة يتمثل، على الأقل، في قدرة إرادة على عدم الانكسار. والآخر شاءها رافداً لمساره التفاوضي المكتوم، الذي طال انتظار دخانه الأبيض، الذي ذهبت به الإملاءات والمماطلات المترافقة مع إعلانات التوسع في عملية التهويد وبناء وتوسعة المستعمرات، وإمعان راعي السلام الأمريكي المنحاز وغير النزيه في التسويف ومواصلة الإيهام للواهمين بغيث وعوده الخلبية. وكون هذه التهدئة تعني عملياً إيقاف المقاومة ولو إلى حين، الأمر الذي ينسجم مع رؤية هذا الطرف أصلاً للحلول ومنطقه المساوماتي، والذي قد يمنحه من ثم فرصةً للمزايدة على من أبرمها.

... والإسرائيلي، يريدها، لعديد من الأسباب التي من أهمها، أنه فشل وفشلت قوته العسكرية الهائلة المنفلتة في تحقيق الأمن لمستعمراته المحيطة بقطاع غزة، وعجزت آلته الحربية المتطورة، وكل وسائل الضغوط الإجرامية المترافقة مع الحصار البشع، الحاصل على بركة التواطؤ الدولي معه، والمسنود ضمناً من قبل العجز العربي، من صد الصواريخ البدائية المقاومة محلية الصنع من الوصول إلى تلك المستعمرات.

...والمصريون والعرب يريدونها. المصريون الذين هي مبادرتهم وحتى يطلقون عليها رؤيتهم، ومن سعوا لإبرامها وعملوا لها بصبر وأناة وإلحاح، يعدونها إنجازاً لهم ذا وجهين: الأول أمني، باعتبار أنهم ينظرون إلى انفجار قطاع غزة نتيجة للحصار، الذين يشاركون ضمناً عبر إقفال معبر رفح في إحكامه، خطراً يتهدد حدودهم ويربك أمنهم، كما أعلنوا لأكثر من مرة، كما أن التهدئة تريحهم من إحراج جراء مثل هذا الإقفال لمعبر على الحدود الفلسطينية المصرية، ولا يزال ماثلاً في ذاكرتهم حادث اجتياح الجماهير الفلسطينية لمعبر رفح. والثاني سياسي أعطاهم دوراً ما في الحراك الدائر في المنطقة، بعد أن بدا وكأنما لم يعد لهم دور أو يسمح لهم به، أو تقلّص بما لا يستوي مع حجم مصر، أو ما هو واقع في مرحلة ما بعد كامب ديفيد المصرية... والعرب، أو أغلبهم، في ظل حال الانحدار الرسمية الراهنة، تريحهم التهدئة من حرج الإشاحة بوجوههم عما يجري لغزة في ظل الحصار... الحصار الذي هو يعد من حيث استمراره مسؤولية عربية، باعتبار أن العرب قادرون على كسره لو امتلكوا الإرادة السياسية لفعل ذلك، كما بإمكانهم دعم صمود الشعب الفلسطيني إجمالاً وبوسائل عديدة متوفرة لم يقدموا عليها. ولدرجة بدا للفلسطينيين وكأنما هذا الحصار هو عربي بالدرجة الأولى.

...والأوروبيون، يثبتون يومياً أن حالهم هو ما وصفته تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية مؤخراً في لوكسمبورغ، في ما يدعى "مجلس الشراكة الأوروبية الإسرائيلية"، معقبة على قرار وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي بإقامة "شراكة أوثق" مع إسرائيل، دون مطالبتها بأي التزام مقابل ذلك، حين قالت:
"نحن جميعاً في معسكر واحد... نحن نتشارك الهدف ذاته عندما يصل الأمر إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني..."، وعليه هم، أما وقد فشل الحصار، مع التهدئة بشروطها الإسرائيلية.

...أما الأمريكان، الذين يتعثر مشروعهم في العراق وأفغانستان، وتعد الإدارة الأمريكية الراهنة باقي أيامها في البيت الأبيض استعداداً لرحيل يجر من ورائه فشلاً يلاحق استهدافات حروبها الاستباقية، وينبئ بمصير مشابه لحربها الكونية الأكبر على عدوها المفضل اللامرئي المسمى الإرهاب، ويؤشر على تراجع سطوتها وهيبتها الدولية، فهم والحالة هذه يرون هذه التهدئة بالإضافة إلى الأسباب الإسرائيلية التي يتماهون معها، لا تأتي إلا في سياق الحد من خسائر مشروعهم بعد أن عزّ انتصاره.

إذن، صمدت غزة، وأثبتت أن صمودها وحده هو الفاعل، وهو من فصل عنوةً بين إعلان بدء التهدئة واستعادة إسرائيل لجنديها الأسير، وفق المطلب الإسرائيلي الذي تم التراجع عنه، حيث ربط هذا الصمود هذا الأمر بتبادل أسرى فلسطينيين لدى الاحتلال، وكأنما هي بذلك ترد على منطق المفاوضات المتهافت... لكنما الإسرائيليون حققوا هدفاً خطيراً لطالما سعوا إليه، وهو الفصل بين غزة والضفة. بحيث بدا وكأنما غزة المحاصرة تصمد، والضفة التي تهوّد على مدار الساعة تستباح بينما يتفاوض المتفاوضون باسمها واسم الفلسطينيين جميعاً، ولعل هذه هي المفارقة المؤلمة التي كشفت عنها هذه التهدئة، التي اطلقت الأطراف المجمعة عليها عصفورها ليحلق بينما الخيط الذي يوثقه يظل طرفه بيد الإسرائيليين... كيف؟!

آليات التهدئة المتفق عليها بدا وكأنما أهمها هو ما أطلق عليه رعاة التهدئة وأصحاب رؤيتها ومبادرتها: "وقف كافة الأعمال العدائية والعسكرية"! في حين أن فتح المعابر هو تدريجي، وحجم الامدادات المسموح بها أيضاً، ويظل معبر رفح، وهو الأهم، بأنتظار مسألة شاليط التي تبدأ المفاوضات حولها خلال اليومين القادمين، حيث يقول رئيس الطاقم السياسي الأمني في وزارة الحرب الإسرائيلية عاموس جلعاد أنه "لن يفتح ما لم يتم الإفراج عن شاليط"... مؤخراً تم الاتفاق على فتح معبر كرم أبو سالم المسيطر عليه إسرائيلياً كبديل لمعبر رفح... ماذا لو غدا هذا الاستبدال دائماً؟!

الإسرائيليون، تلكأوا وتأخر اعترافهم الرسمي ببدء التهدئة، لأسبابهم الداخلية أولاً، وأعلنوا سلفاً عبر المتحدث باسم الحكومة مارك ريفيف أنه "إذا توقف فعلياً تعزيز الترسانة العسكرية (لحماس)، وإذا تحقق الإفراج عن جلعاد شاليط، فإن واقعاً جديداً سينشأ"!

إذن، هذا "الواقع الجديد" لن ينشأ إلا بتحقيق هذين الشرطين، وحتى لو تحققا، فهناك قول آخر من قبل رئيس دائرة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية الجنرال يوسي بايدتس هو: "أنه إذا تم التوصل إلى تهدئة مع حماس والمجموعات الإرهابية في قطاع غزة، فإنها ستكون مؤقتة وهشة".

وما قاله الجنرال صادق عليه أولمرت رئيس الحكومة، بقوله:
"إن ما يدعونه تهدئة هو هش، ومن المرجح أن يكون قصير الأمد". وعليه، فإن "المجلس الوزاري الأمني المصغر أبلغ وزير الدفاع والجيش بالاستعداد وبسرعة لأي عملية تكون ضرورية"!
قد يقول قائل، إن مثل هذه الأقوال هي من باب الضغوط، وفيها ما هو موجه للداخل، قد يكون ذلك كذلك، لكنما يؤشر على أن إسرائيل ولأي سبب كان أو ذريعة تشاء سوف تضع حداً لها آن ترى من مصلحتها ذلك.

نعم التهدئة كانت، وأرادها الجميع... حماس لفك الحصار، ورام الله برسم التفاوض، والمصريون لاستعادة الدور الغائب وتجنب اجتياح آخر من قبل المحاصرين لمعبر رفح، والإسرائيليون لفشلهم في حماية مستعمراتهم، والغرب لفشل الحصار وتراجع المشروع الأمريكي في المنطقة... لكن يجب ألا ننسى بأن لا ضامن لاستمرارها، لأن إسرائيل وحدها هي الممسكة بطرف الخيط الذي يوثق عصفورها الذي لن يحلق أبعد مما تريده هي له... والأخطر، أن تعني إيقاف المقاومة ومواصلة المفاوضة مع التهويد!

التعليقات