31/10/2010 - 11:02

مكانة أميركا تنحدر لسببين أحدهما العراق../ جميل مطر*

مكانة أميركا تنحدر لسببين أحدهما العراق../ جميل مطر*
مرشحون جمهوريون لمنصب الرئاسة يتفادون أن تظهر لهم صور وهم في صحبة الرئيس جورج بوش. رؤساء دول وزعماء سياسيون يتعمدون عدم دعوة الرئيس الأميركي لزيارة عواصمهم، وآخرون يتهربون من تكرار اجتماعاتهم ولقاءاتهم به. إعلاميون، وبينهم أميركيون، صار شغلهم الشاغل في مؤتمرات القمة تغطية لامبالاة الرأي العام ورؤساء الوفود بوجود رئيس الولايات المتحدة أو عدم وجوده. وفي مؤتمر آبيك الأخير الذي عقد في استراليا كانت اللامبالاة واضحة إلى حد دفع بأحد الإعلاميين إلى إطلاق صفة «القمة الصينية» على المؤتمر، وهو ما أثار غضب الرئيس الأميركي ودفعه إلى الرد بأن رابطة دول آسيا والباسيفيكي أصبحت «رابطة صينية».

ماذا حدث؟ هل تراجعت المكانة الأميركية أم تراجعت مكانة الرئيس بوش؟ أم أن التراجع في واحدة يغذي التراجع في الأخرى وبمعدلات يخشى زعماء دول وقادة فكر في أوروبا والولايات المتحدة أن تزداد تسارعاً؟

صار أمراً ذائعاً أن كبار الديبلوماسيين في عواصم متعددة وفي الأمم المتحدة ومنظماتها ومعظم المحافل الدولية يتحدثون صراحة عن أن الولايات المتحدة لم تعد تتصدر أي حوار دائر في العالم باستثناء الحوارات والمفاوضات في شأن الأمن والإرهاب. أميركا لا تقود بل تكاد لا تشارك في معظم حوارات الحضارة والأديان والثقافات. وما زالت تتهرب من كثير من المؤتمرات التي تناقش قضايا تلوث البيئة والاحتباس الحراري. أميركا ليست في صدارة الحوارات عن الفقر والمرض والبحث عن حلول لمشكلات نقص الدواء وارتفاع ثمنه في الدول الكثيفة السكان الشديدة الفقر. من ناحية أخرى تخلت أميركا في السنوات الأخيرة عن قيادة مؤتمرات وحوارات لا يلتزم الحاضرون فيها مسبقاً باستعدادهم للقبول بالشروط التي وضعها اليمين المحافظ في الحزب الجمهوري للمعونات الأميركية، مثل القيود على الإجهاض أو القبول بمبدأ زواج المثليين، وشروط أخرى من كل نوع ابتداء بحرية العقيدة وانتهاء بحصانة المواطن الأميركي خارج وطنه.

تبدو أميركا كما لو أنها قررت التخلي عن دورها في قيادة العمل الدولي في قطاعات وأنشطة كثيرة، بل تبدو كما لو أنها قررت الانعزال بتدرج. وتبدو لآخرين دولة أعظم تفتقر إلى حماسة قياداتها البيروقراطية كما في قطاع الديبلوماسيين وأجهزة الاستخبارات وقياداتها الفكرية الأكاديمية كما في قطاع الجامعيين والبارزين في مراكز العصف الفكري والبحث العلمي.

أم أنها، وهي الدولة الأعظم من دون منازع، حتى الآن على الأقل، ركزت بأكثر مما يجب على العراق فتشتت فكرها وجهدها في أي قضية أخرى وخاب أداؤها في أي موقع آخر. الدولة التي تنفق أكثر مما ينفقه العالم كله على السلاح والحرب محرجة أمام شعوب وحكومات أخرى لأنها عاجزة عن «تخليص» نفسها من ورطة العراق وفرض نهاية للحرب تعيد إليها احترام الآخرين. هذا الشعور بالحرج المختلط بشعور الذنب بسبب فضائح التعذيب وخرق حقوق الإنسان وتدمير أمة وإشعال فتنة أو حرب أهلية بين طوائفها، يضع الديبلوماسية الأميركية، وربما أساليب التعامل مع الخارج بما فيها «ديبلوماسية القمة» كافة، في موقف المرتبك أو غير الواثق، فتبتعد عن الصدارة، وعن القضايا العالمية العظمى التي تهتم بها شعوب أخرى، ولا تبدو أميركا منتبهة إليها أو مكترثة بها.

قرأنا لمن يشكو في أوروبا الشرقية إهمال أميركا، ولمن يشكو في آسيا، مثل لي كوان يو زعيم سنغافورة، انشغالها بالعراق على حساب بقية العالم. ولمن يشكو في أميركا اللاتينية تجاهلها التطورات الجذرية في القارة وصحوة السكان الأصليين وتقدم اليسار القومي المتمرد. ونعرف عرباً لا يكفون عن الشكوى من رفض إدارة بوش الاقتراب من الصراع العربي الإسرائيلي حتى من قبل أن يغزو العراق، ومن ترك الصراع لإسرائيل تتولاه إلى النهاية التي تتوخاها.

الظاهرة لا شك محيرة، فالدولة الأعظم تنحدر في نظر الآخرين رغم احتفاظها الكامل بإمكاناتها الفائقة. وقد لا يكون لهذه الحالة سابقة في تاريخ العلاقات الدولية. إذ لم يحدث من قبل، على الأقل حسبما أذكر، أن دولة متفوقة في الإمكانات والقدرات كافة على ما عداها انسحبت طوعاً وبإرادتها من مواقع الصدارة في الحوارات الدولية. صحيح أن تاريخ العلاقات الدولية لم يسجل مرحلة بلغت فيها دولة ما بلغته الولايات المتحدة من تفوق في الإمكانات على كل ما عداها، ولكنه صحيح أيضاً أنه لم يسجل أن دولة عظمى تخلت من دون هزيمة عسكرية عن مسؤولياتها المتنوعة بتنوع مصالحها ومبادئها.

لعلنا نجد تفسيراً للظاهرة في أحد احتمالين، أو في كليهما معاً. الاحتمال الأول أن موجة الصعود الكاسحة التي تركبها الصين والهند وروسيا، وتركبها أيضاً فنزويلا وإيران وقوى دينية وغير دينية متطرفة في آسيا وإفريقيا، قد تكون السبب وراء الانسحاب الأميركي من مواقع الصدارة في المحافل الدولية باستثناء محافل الأمن والإرهاب. هذا الصعود المتدرج، ولكن الثابت والحاسم، لا يعني بأي حال أن قصوراً أو عجزاً أصاب تفوق أميركا العسكري والتكنولوجي والاقتصادي، ولا يعني أن الآخرين انتهزوا فرصة انشغال الولايات المتحدة في العراق، ليبدأوا بجسارة ومن دون معيقات أميركية صعبة رحلة الصعود، أو أسرعوا الخطى من أجل صنع واقع جديد في النظام الدولي تجده الولايات المتحدة في انتظارها عندما تقرر العودة إلى صدارة القيادة.

ستجد أميركا في انتظارها في جنوب آسيا، على سبيل المثال، شبكات بنية تحتية ومشروعات عملاقة أقامتها الصين في لاوس وكمبوديا والفيليبين وتيمور الشرقية، غيرت الكثير من ملامح خطة التنمية والتقدم في هذه المنطقة وطرحت قدوة ونماذج جديدة. وفي إفريقيا وأميركا اللاتينية يقع تطور مماثل وإن بحجم آخر وأساليب أخرى.

يحدث هذا الاختراق من جانب الصاعدين في الوقت الذي يحضر فيه الرئيس بوش مؤتمراً لقادة آسيا ويجد نفسه، واحداً بين أقران.. لا أكثر، بل ربما أقل إذا أخذنا في الاعتبار الاهتمام الذي حظيت به الصين فعلاً في هذا المؤتمر. يحدث الاختراق أيضاً في الوقت الذي يعتذر فيه روبرت غيتس وزير الدفاع الأميركي عن رحلة كان مقرراً أن يقوم بها الى أميركا اللاتينية، وكان السبب المعلن وراء الاعتذار، تطورات أزمة العراق. ويحدث في الوقت الذي تعلن فيه إيران بالصوت العالي والضجة المناسبة أنها جاهزة لتملأ الفراغ الذي خلفته أميركا في أنحاء الشرق الأوسط، وفي الوقت الذي يدعو فيه رئيس فنزويلا هوغو شافيز أميركا إلى منازلة على أرض كولومبيا، الحليف الأكبر لأميركا في القارة الجنوبية، بعد أن حقق انتصارات متعاقبة في بوليفيا والأرجنتين وكوبا وإكوادور ونيكاراغوا وغيرها. صعود الآخرين أياً كانت أسبابه ومحفزاته ليس كافياً وحده لتفسير انحدار الممارسة الأميركية لدورها القيادي.

الاحتمال الآخر الذي يمكن أن يفسر انحدار الممارسة الأميركية لدورها القيادي هو الرئيس بوش شخصياً، ليس فقط بسبب أسلوبه في إدارة سياسة أميركا الخارجية وحروبها وأفكاره ومبادرته، ولكن أيضاً بسبب وقوعه تحت تأثير «رؤيته لدوره في التاريخ»، فالرجل يعيش في وهم صنعه لنفسه بنفسه ومع عدد من الأشخاص الذين تولوا «خلاص روحه» في مرحلة سابقة على دخوله الساحة السياسية. يعتقد الرئيس أن التاريخ سيقدر له دوره في الحرب ضد «الإسلام العالمي» ونشر الديموقراطية وهزيمة الاستبداد في دول كثيرة أو أن التاريخ سيقدر له ما فعله من أجل العراق بعد أن «حرره» من دكتاتورية مستبدة وشريرة. لا يرى الرئيس بوش أن العراق أصابه ضرر فادح وقد لا يعود إلى سابق عهده بلداً يسكنه «عراقيون»، وأنه شخصياً، وبفضل الفوضى التي صاحبت خطة الغزو كما صاغها رامسفيلد وتومي فرانكس، قضى على دولة وغرس بذرة فوضى إقليمية لن تقف عند حدود الخليج. لا يعرف الرئيس، ولا يريد أن يعرف، لأنه مقتنع بأنه مسيّر من قوى أعظم.

إننا أمام أدلة متزايدة على أن الرئيس بوش كان، وربما ما زال، خاضعاً لـ «رسائل» يعتقد أنها تصل إليه من قوى وراء الطبيعة. وآخر دليل ما نشرته مجلة متخصصة فرنسية عن الاتصال الذي تم بين الرئيس بوش والرئيس شيراك قبل غزو العراق، تبلغ فيه الرئيس الفرنسي الخبر أن صراع ياجوج وماجوج نشب من جديد في الشرق الأوسط، وأن النبوءة المزعومة على وشك أن تتحقق، أي إبادة أعداء شعب إسرائيل. بئس حرب يقودها من يؤمن بأنه مبعوث لتحقيق نبوءة سماوية ويعمل في الوقت نفسه ليسجل اسمه كزعيم سياسي وقائد عسكري في صفحات التاريخ.

بوش وغيره من الزعماء الذين عاشوا وماتوا مقتنعين أن التاريخ سيعترف يوماً ما بأفضالهم التي أنكرها في حياتهم المفكرون والسياسيون والإعلاميون، هؤلاء الزعماء لا يلقون بالاً لآلام الشعوب ولا يهتمون بالتضحيات والخسائر والهزائم القصيرة، لأنهم آمنوا بأنهم على حق، والعبرة ليست بما يحدث ويقال الآن ولكن بما سيسجله التاريخ. عاش معظم هؤلاء ولم يغيروا سياساتهم أو أفكارهم حتى النفس الأخير. وفي ظني أن بوش كواحد منهم لن يغير سياسته في العراق ونياته تجاه غيرها، ليس فقط لأنه مؤمن بدوره في التاريخ ولكن أيضاً لأنه غير معني بتبعات سياساته على الوضع السياسي الداخلي في الولايات المتحدة بعد أن اقتربت نهاية ولايته إذ لم يتبق له في الحكم سوى أربعة عشر شهراً.

سيترك بوش الرئاسة مطمئناً إلى أن أميركا لن ترحل عن العراق وغافلاً عن حقيقة أن العراق هو الآخر لن يرحل عن أميركا بعد أن تسلل إلى روحها وتمكن منها ومن معنويات الشعب وطبقة الحكم.
"الحياة"

التعليقات