31/10/2010 - 11:02

من مؤتمر الأديان إلى مؤتمر الديون../ د.عصام نعمان*

من مؤتمر الأديان إلى مؤتمر الديون../ د.عصام نعمان*
ما أن انتهى مؤتمر الأديان في نيويورك حتى اتجه بعض الزعماء المشاركين فيه إلى واشنطن حيث ينعقد مؤتمر الديون. أليست هذه هي التسمية الحقيقية لمؤتمر الدول العشرين لمناقشة آثار الأزمة المالية العالمية وسُبل توفير السيولة اللازمة لمصارفها ومؤسساتها المتعثرة؟

الأديان والديون تلخّص هواجس كونية مقلقة في هذه الآونة. فالعالم، دولاً وشعوباً، يعاني من تضخم كليهما. الأديان كثيرة في الأصل، وقد تضخم عدد المؤمنين بها والمستعملين لها لأسباب عدّة، أبرزها تضخم أحجام الديون وإنعكاس ذلك سلباً على أوضاع المجتمعات والناس، لدرجة أن جماعات من المديونين عزت أزمة المديونية إلى نقص في تديّن المؤمنين وغلوٍّ في “مروق” الملحدين.

ثمة مشكلة في فهم المؤمنين لمسألة تقصير غير المؤمنين، ناهيك عن الملحدين، في ممارسة تعاليم الأديان. لكن المشكلة الأخطر هي في استعمال الحكومات الدين كأداة من أجل الترويج لأغراض سياسية، أو لقمع سياسيين أو تيارات سياسية معارضة أو مخالفة أو متمردة.

للمتدينين، أو بعضهم، حساسية مفرطة تجاه غير المتدينين حتى لو كانوا مؤمنين. هم ينكرون عليهم التقصير في التديّن حتى حدود التكفير. ولغير المتدينين حساسية مرهفة تجاه المتدينين. هم يأخذون عليهم إيمانهم المفرط حتى حدود التحقير. غير المتديّن في الحالة الأولى كافر. المتدين في الحالة الثانية رجعي. الحوار بين الفريقين شبه مقطوع بل مذموم.

كان الأمر ليهون لو بقي محصوراً بين المتدينين وغير المتدينين. لكن الحكومات دخلت على الخط وتدخلت، وما دخلت السياسة شيئاً في شرقنا الحزين إلا أفسدته.

كان المتسامحون من غير المتدينين، حتى لا نقول العلمانيين، يطرحون شعار “فصل الدين عن الدولة” لظنهم أن تدخل “رجال” الدين في الأمور السياسية يستولد حساسيات وتشنجات وعصبيات تفرّق ولا توحّد. ربما يتعيّن على هؤلاء اليوم أن يعيدوا النظر بشعارهم العتيق ويستولدوا شعاراً جديداً هو “فصل الدولة عن الدين”. ذلك لأن الدولة، بمعنى الطاقم الحاكم أو الحزب الحاكم أو الشبكة الحاكمة، هي التي توظف الدين ورجال الدين في الأمور والأغراض السياسية التي كثيراً ما تكون فئوية وحزبية ضيقة.

في القرن التاسع عشر وقبله، كان رجال الدين في أوروبا يحاولون، من خلال الكنيسة ومؤسساتها، السيطرة على الدولة، الأمر الذي أغاظ الملوك الحريصين على ممارسة سلطاتهم منفردين بمعزل عن أي سلطة أخرى. هذا الصراع بين الكنيسة والملك تطور إلى صراع أوسع، إذ انخرطت الطبقات الشعبية التي كانت تشكو من طغيان النبلاء، وعلى رأسهم الملك من جهة، ورجال الدين والكنيسة من جهة أخرى، في نضال طويل ضد هاتين “الطبقتين”، حتى تمكنت من تقييد سلطتيهما بدستور وقوانين وانتخابات نيابية تكون فيها السيادة للشعب من خلال ممثليه.

في دار الإسلام لم يحاول رجال الدين، أي الفقهاء والعلماء، السيطرة على الدولة، بل كانوا، في أغلب الأحيان، على تماس إيجابي مع السلطان. ثمة استثناء، ولكل قاعدة استثناء، إذ يروي مالك بن أنس أن الخليفة أبا جعفر المنصور أراد نسخ كتبه وإرسالها إلى كل مَصر من أمصار المسلمين كي يعملوا بما فيها ولا يتعدوها إلى غيرها. لكن مالك رفض ذلك “لأن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث أصحاب رسول الله، صلى الله وعليه وسلم، وغيرهم، وأن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم”.

يستنتج المفكر المجدد جمال البنا من رواية مالك بن انس مع أبي جعفر المنصور ان الفقهاء، لاسيما الكبار والأفذاذ منهم، كانوا يرفضون تقنين الشريعة وما كانوا يطلقونه من فتاوى، لأن الدولة هي التي كانت ستتولى عملية التقنين. ولماذا عارضوا التقنين؟ لأنهم كانوا راغبين في الاحتفاظ بسلطة الإفتاء بعيداً عن إملاء الحكام. ذلك ان تقنين الشريعة من شأنه أن يضع بين أيدي الحكام سلطة مضافة للضبط والربط والسيطرة.

لعل أخطر مظاهر تدخل الدولة في الدين في تاريخنا المعاصر، ما لجأ إليه بعض الحكومات بإنشاء تنظيمات دينية أصولية أو رعاية تنظيمات مشابهة وتحريكها لمناهضة تنظيمات مدنية، بمعنى غير دينية، تناصبها العداء لأسباب سياسية. فقد اضطرب الأمن وتزعزع الاستقرار بلجوء بعض تلك التنظيمات إلى العنف في حوارها مع خصومها، وانقلاب بعضها الآخر على الدولة الراعية واللجوء إلى العنف في سياق مناهضتها.

المتحاورون في مؤتمر الأديان اغفلوا، بطبيعة الحال، بحث مسألة استخدام الدولة للدين، لأن لا مصلحة لبعضهم في ذلك. كما أغفلوا بحث لامشروعية بعض المتحاورين، لاسيما “الإسرائيليون” منهم. فقد اقتصرت الحوارات والمناقشات على صوغ إعلانٍ يدعو إلى نبذ الإرهاب والإجرام والتعصب، والحض على بناء والتزام ما هو مشترك بين الناس والأجناس، وما إلى ذلك من العناوين والشعارات غير الخلافية، وتكليف لجنة لمتابعة تنفيذ التوصيات وأخرى لإعلان جائزة للحوار العالمي من اجل السلام تحت رعاية الأمم المتحدة.

كان يقتضي إثارة مسألة لامشروعية بعض المشاركين وفي مقدمهم رئيس الكيان الصهيوني شيمون بيريز. ما علاقة هذا الشخص بالدين والقيم الدينية والشراكة الإنسانية وهو الذي تعمّد، عن سابق تصور وتصميم، تنظيم مجزرة قانا الأولى وتنفيذها، أملاً في أن تلقى إعجاباً وترحيباً في أوساط المتعصبين وأهل اليمين من الناخبين الصهاينة، فيصوتوا له ولحزبه في الانتخابات ويمددوا بالتالي إقامته في رئاسة الحكومة؟ إن مجرمين محترفين من طراز بيريز لا يجوز الاكتفاء بعدم مصافحتهم، بل يقتضي نبذهم وإدانتهم وعدم قبول مشاركتهم في أي مؤتمر يتعلق بحقوق الإنسان وحقوق الشعوب.

في مؤتمر الديون لن يكون للأديان دور أو أثر. ذلك لأن معظم رؤساء الدول العشرين المجتمعين في واشنطن هم من غير المتدينين، وإن كان بعضهم من المؤمنين بل من غلاة هؤلاء. فجورج بوش متدين ويزعم انه مؤمن تقي نقي لدرجة تسمح له بالتواصل مع الله تعالى. ألم يكن ترشّحه للرئاسة، أَولَ مرة، إلهاماً إلهياً، وشن الحرب على العراق “وحياً ربانياً”؟ ترى لماذا لا يفسر للملأ إقتصار الإلهام الإلهي على الشأن الرئاسي والشأن الحربي وعدم شموله شؤون المال والاقتصاد ومعيشة الناس؟

لا علاقة، بطبيعة الحال، بين الأديان والديون. فمؤتمر واشنطن تعبير صارخ عن انهيار النظام المالي العالمي، وعن نهاية القيادة الأمريكية للعالم، وعن اعتراف مجتمع الدول بتعددية جديدة، ناشئة وفعالة، تتمثل فيها بقوة دول واعدة اقتصاديا وتكنولوجياً في أمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا والشرق الأوسط.

لن يتمكن مؤتمر الديون الناجمة عن فقدان السيولة في كثير من الدول وفي مقدمها الولايات المتحدة من التوصل الى حلٍ للأزمة المالية المتفاقمة. ذلك لأن كبرى المسائل الخلافية ستكون كيف يمكن مساعدة أمريكا على توفير سيولة لمصارفها ومؤسساتها، من دون ان تبقى حرة، طليقة وقادرة على الاستدانة كما تشاء وساعة تشاء.

إن أمريكا هي اليوم اكبر دولة مديونة في تاريخ البشرية. وقد تمكنت، بفضل ضخامة اقتصادها الإنتاجي من جهة، وتفوق قدراتها العسكرية بعد الحرب العالمية الثانية من جهة أخرى، من بناء نظام مالي دولي يخدم اقتصادها وسياساتها بالدرجة الأولى. لقد تغيرت الظروف اليوم، فتدنّت حصة أمريكا في الإنتاج الصناعي العالمي من نحو 40 في المائة إلى أقل من 20 في المائة، ونشأت اقتصادات قوية تنافسها في شتى حقول الإنتاج والخدمات، وأصبح للدول المنتجة للنفط احتياطات مالية ضخمة بمئات مليارات الدولارات، وتعثرت مخططات أمريكا الحربية في العراق وأفغانستان ولبنان والصومال. كل ذلك يحدّ من دور الولايات المتحدة ومن نفوذها، ويتيح لمجموعة من الدول ذات الاقتصادات الناشئة والصاعدة بأن يكون لها رأي وازن وصوت مسموع في تركيز نظام مالي عالمي جديد.

دول العام تضجّ بأديانها وديونها، وأزماتها السياسية والمالية تتعقد وتتفاقم، ولا ضوء بعد في نهاية النفق.
"الخليج"

التعليقات