31/10/2010 - 11:02

نحن وشارون والشوارما/ د.عزمي بشارة

نحن وشارون والشوارما/ د.عزمي بشارة
انضم عرض الفصل الأخير من حياة شارون، ومهرجان نزيفه الدماغي الإعلامي إلى علامة من علامات ومحطة من محطات تقدم التلفزة المجيدة على طريق تطور "التغطية" التلفزيونية الظافرة في عصرنا نحو شمولية الإعلام وتوتاليتاريته إلى جانب مهرجانات أخرى شهدها العقد الأخير. وقد بزت هذه "التغطية" الأخيرة تغطيات أخرى، وذلك ليس بطولها واتساعها فحسب، بل أيضا بأنها تغطية حرفيا، أي أنها بدل أن تكشف سياسة وسيرة هذا السياسي قامت بتغطيتها.

تعامل الإعلام الإسرائيلي مع مرض شارون بمنهج الأستوديو المفتوح، الذي يجلس فيه مع مقدم البرنامج المناوب صحافيون وسياسيون وخبراء يغطون بالثرثرة المدة الواقعة بين تقرير وتقرير من أمام المستشفى، تتلوها مقابلات من دول أخرى، وبعض التلخيصات الوثائقية السريعة التي أعدت على عجل بانتظار تقارير أكثر مهنية. وعندما طلب أحد الصحافيين مقابلتي مؤخراً، قال إنه مسؤول عن إعداد فيلم سوف يبث في حالة الوفاة. أي أن لديهم ما يكفي من الوقت حاليا لإعداد برامج لحالة الوفاة، إذ لن يكون موتا مفاجئاً!
وتميزت مرحلة التغطية الإسرائيلية الطويلة لمرض شارون بطولها أولاً، وبأن الخبراء هم هذه المرة عبارة عن أطباء أخصائيين في طب وجراحة الأعصاب.

يحسب المرء أن الجراحين وأطباء الأعصاب يقلون من الظهور في الإعلام، ولذلك صعق العديد عندما شاهدوهم ساعة ضعفهم التي لا بد أنهم يخجلون منها الآن. لقد أصيبوا هم أيضا بعدوى الكاميرا. ولم يبق في إسرائيل طبيب أعصاب واحد إلا وظهر في التلفزيون كمعلق ومفسر لتدهور صحة شارون، وماذا فعل الأطباء وماذا سيفعلون بتقديرهم.

وتسابقت المحطات بالإحتفاظ بأشهر جراح ممكن في الأستوديو بشكل ثابت ولأطول ساعات ممكنة، من دون نوم. ولا شك أن الجراحين يبزون الصحافيين في الجلد والقدرة على تحمل قلة النوم. وبلغ الحضيض عندما أحضر أحدهم إلى الأستوديو مجسما لدماغ يساعده في شرح تطور الحالة.

في المرحلة الثانية من التغطية انتقد المعلقون الصحافيون الأطباء الذين أكثروا من التشخيص والتحليل من دون معرفة للحالة العينية. واستمر النقد على المعلقين الخبراء والجراحين مدة يومين. ثم بدأت المرحلة الثالثة بتجنب الأساتذة والجراحين إبداء رأي في حالة المريض شارون، واكتفوا بمقولات عامة حول حالات شبيهة تبدأ بجمل شرطية وتنتهي بحذر شديد برفض التعليق عينيا على حالة شارون. ثم بدأت مرحلة عتاب بين الخبراء والصحافيين حول ما قاله فلان عن فهم فلان في الطب الخ.

وبلغ الأمر بالصحافة والتنافس في ما بين أدواتها على معلومة، أو شذرة معلومة، أو أي طرفة من شأنها أن تطرد النعاس من عيون المشاهدين، أن وصل الصحافيون إلى والدة أحد الجراحين، وهما يهوديان مهاجران من الأرجنتين، لعل ابنها حدثها بأمر ما عن صحة مريضه. واكتشفنا اسم مدينتهما، روساريو، وحجم الجالية اليهودية المؤلفة من سبعة آلاف مواطن فيها. إستطرادات عجز عنها حتى الجاحظ!

أما السياسيون فيشاركون في البرامج في الأستوديو. ودرجت بينهم تقليعة كيل المديح لشارون وعدم الرغبة في التطرق إلى الخلافات معه، ولا إلى مستقبل حزبه، ولا إلى مستقبل الخارطة السياسية من بعده لأن في ذلك تأكيدا على أنه سيموت لا سمح الله، أو لأن هذا يعني أنهم سوف يرثونه وهو حي... الجميع يؤكد أنه يريد "في هذه اللحظات الصعبة" أن يظهر بمظهر فيه من الرسمية أكثر مما فيه من الحزبية، والصحافيون يحاولون ويحاولون استخراج سجال حول الخلافات دون جدوى. التظاهر بالرسمية سيد الموقف، وبعد عدة محاولات يمل الجميع الجمل النمطية حول الوحدة وتمنيات الشفاء.

ويتوقف البث للإعلان أن الأطباء "سوف يحاولون غدا إيقاظ رئيس الحكومة"، وكأن الكلام هو عن قبلة للحسناء النائمة! وسرعان ما تخرج أخبار عن أنه حرك يده اليسرى ثم يصدر نفي للخبر مع تأكيد أنها اليمنى. وبعد كل خبر خبير، وبعد كل تفنيد خبير آخر.

ويُسمِع إبنا المريض شارون، أحدهما أدين بتهم الفساد وتلقي الرشوة بدلا عن أبيه، لوالدهما معزوفات لموزارت في غرفته بناءاً على نصائح الأطباء، لأن المؤثرات اللازمة لإيقاظه هي أصوات وروائح ومؤثرات أخرى من الماضي يحبها، لذلك لم أفهم لماذا لم يسمعا له تسجيلات دويّ المدافع ولعلعة الرصاص وصفير القذائف وصراخ الأيتام واستغاثة المغتصبات في صبرا وشاتيلا!

ثم تأتي المفاجأة من القناة التلفزيونية الأولى إذ يصدر خبر أنهم مرروا رغيف شوارما من تحت أنفه عدة مرات!!. اشتهر عن الرجل حبه المفرط للطعام وعدم قدرته على ضبط نفسه لمشهد المأكولات، كما أكد بنفسه عدة مرات، ولكن أن يدخل تاريخ الطب بهذا الشكل أي بمحاولة الإيقاظ من "الكوما" الدماغية بتمرير رغيف الشوارما تحت الأنف، فهذا ما حسبته تركيباً كاركاتيرياً ساخراً وخبيثاً. ولكن لا، هذه هي الحقيقة. لقد فعلوا ذلك. وربما سوف يسمونه في المستقبل "فحص الشارونما"، من يدري؟

وبقيت أفكر ماذا لو نجحوا في إيقاظه ولكن بخلل في الدماغ يجعله ينسى السنوات الأخيرة بما فيها فك الإرتباط. ماذا لو خرج للصحافيين بعدائيته المعروفة تجاههم معتقدا أنهم اجتمعوا ليسألوه عن صبرا وشاتيلا وحرب لبنان، أو عن إفشاله مع ديان خطة شاريت للتفاوض مع عبد الناصر عام 1955 بتسخين الحدود بالاستفزازت والمذابح، أو عن مشاركته في انقلاب الجنرالات على إشكول لإجباره على شن الحرب عام 1967، أو لو انتقل إلى تهديد عرفات بالقتل أو اللبنانيين بقصف بيروت مرة أخرى!

وطبعا، أبدى الساسة في كافة أنحاء العالم قلقهم من تدهور صحة شارون. وانضم العرب إلى هذه العولمة كعادتهم كمستهلكين تابعين متبارين في إبداء القلق، إذ تابع بعضهم أخبار صحة شارون بـ"قلق"، وبعضهم الآخر بـ "قلق بالغ"، ولم تتوقف "اللقلقة" عن القلق حتى لحظة كتابة المقال. فشارون قد يتحول إلى نبتة بأعضاء حيوية فاعلة وسبات مستمر، وقد يشل وقد تطول فترة الإنتظار ومعها القلق البالغ. فالوقت ليس صديق القلق، وإذا طال الأول فسرعان ما سيحل الزهق مكان القلق.

قد تطول عملية انتظار مصارعة الموت والنزاع الأخير. ولذلك كان يترك الأقارب في بلادنا أشغالهم وهم ينتظرون في المستشفى نتيجة نزاع الموت أو ينتظرون صحوة بعد سكرات الموت يتبعها موت زؤام، وإذا طالت عملية الانتظار ينشأ نوع من الحرج الذي يميز حياة البشر القصيرة الكثيرة الحرج. فتمني ألا يطول الانتظار يعني تمني الموت للشخص. والإنتظار من دون حد يعني تعطيل الأشغال والأعمال من دون جدوى...ولذلك يأخذ الأقارب بالتناصح، كل ينصح الآخر أن يذهب إلى عمله أو دراسته مما يسهل على الناصح فعل الأمر ذاته. ويقولون: "حي ما بينطر حي". ولكن الإعلام ينطر طبعا. هذه شغلة الصحافيين المدفوعة الأجر. ويغطي الصحافيون كل نفس يأتي من غرفة المريض وكل حركة يد طالما هنالك أوامر من غرفة التحرير حتى تأتي تعليمات أخرى بفك الخيمة والإنتقال إلى تغطية أكثر راهنية أو دراماتيكية أو غير ذلك.

وتستمر التغطية أياما. تفرد دقائق كل ساعتين في كل محطة تلفزة دولية لتقرير لمراسلنا الرطب الشعر أو الصلعة من رذاذ المطر أمام هداسا. يقابلون كل من يدخل ويخرج. ثم لا يلبث الصحافيون أن يقابل أحدهم الآخر بعد أن ينتبه محررو النشرات الى أن حجم الإهتمام الإعلامي يحتاج بذاته إلى اهتمام إعلامي، فيصبح هو الموضوع. ويقابل كل صحافي زميله متسائلا لماذا حضر؟ وكيف تتم التغطية في بلده؟ وما هو رد فعل الناس هناك على مرض شارون؟. وكأن أحدا سأل الناس هل يهمهم الموضوع إلى هذه الدرجة. الإعلام يفرض أجندته على الناس، ويقرر للجمهور ماذا يريد أن يعرف. ويتقمص الناس شخصية الجمهور التي فرضت عليهم.

لقد تحول مجرم الحرب شارون، أحد أبرز المغامرين العسكريين ومجرمي الحرب في النصف الثاني من القرن العشرين إلى رجل سلام معتدل، كما تحول الذئب إلى جدة في قصة "ليلى الحمرا" (المسماة طاقية حمراء في الأصل عند الأخوة غريم) بعدما افترس الجدة ولبس لباسها. وفي حين كشفته أنيابه في الأسطورة الطفولية وعاجله الصياد، يعالج الإعلام صورته ويصنع له قناعا، ويعالج الأطباء صحته، وهم، الصحفيون والأطباء، حاليا أعضاء في فريق جراحي واحد في الواقع.

انصاع العرب والأوروبيون لعجزهم ولطلب الأميركيين، وتعاملوا مع شارون كرجل سلام رغماً عن أنفه حتى وهو يغتال الفلسطينيين ويبني المستوطنات والجدار العنصري الهمجي. وحين كان يملي شروطا إسرائيلية من طرف واحد، ويفرض إيقاع التحرك السياسي من طرف واحد معلنا للملأ أن غايته هي تجنب تنفيذ خارطة الطريق، كان العرب يصرون على أنه ينفذ خارطة الطريق وأنه تغير. وحين تلقى مقابل فك الإرتباط في قطاع غزة وعداً أميركياً بتبني وجهة النظر الإسرائيلية وثوابتها في ما يتعلق بالحل الدائم، غطى العرب على ذلك قائلين أنه في مقابل هذا الوعد العيني وعدتهم أميركا وعدا عاما بأن الأمور تحسم في المفاوضات وليس في المراسلات بين بوش وشارون، وكأنها مراسلات حب وغرام غير ملزمة سياسيا لأحد.

وبسرعة فائقة انتقل جميع الساسة التابعون لأميركا في كل ما يتعلق بهذه المنطقة إلى ربط مصير "عملية السلام" بصحة شارون وإلى القلق، والقلق البالغ، وتلقي التقارير المتوالية عن صحة شارون. والإعلام يتلقى أيضا الأجواء فينفخ فيها لتستعر لهيبا. ومهما يجتهد المرء في إيضاح الصورة لهم، ومهما تحاول أن ترد أنه لا عملية سلام ولا يحزنون وأن شارون قضى على أية عملية سياسية، فإنهم يصرون في السؤال التالي على معرفة ما هو مصير عملية السلام، ويصرون عليك أن تعبّر عن قلقك لمصيرها...وهكذا. مصيرك أنت ومصير رأيك محتوم، وعليك أن ترى أن شارون قد تغير وأنه أصبح رجل سلام، أو جدة ينتظر الجميع بحزن مشوب بالإحترام حول فراش موتها.
وسوف تبدو كمفسد حفلات محترف إذا أصريت على اعتبار شارون مجرم حرب، أو إذا ذكرت بصبرا وشاتيلا ونحالين وقبية، وبرفح ماضيا وحاضرا، وإذا ذكرت بالإغتيالات الحالية. وإذا وقفت عند رأيك أنه لم يصبح رجل سلام بل إن العرب أضحوا رجال استسلام، فسوف تبدو خشبيا أمام إعلام البلاستيك.

وتتوافد إلى هداسا وفود يهودية جاءت خصيصا أو تتواجد في "عاصمة الشعب اليهودي" لا لشيء إلا لتقدم القرابين بمعنى ما لـ"اوراكل" هداسا كما لـ"اواركل دلفي" (عرافة أو كاهنة معبد دلفي، الوسيط مع الآلهة)، أي إلى الوسيط الروحي الحالي بين الشعب اليهودي والأبدية والمصير والقدر، أو سمّها ما شئت. وإذا كان الإنتظار مملا ومتعبا بالنسبة للمريض العادي على فراش الموت، ففي حالة شارون يتمنى حزبه وشعبه أن يطول الإنتظار. فحتى لو فكك الإعلام الدولي خيامه وذهب يبقى بقاء شارون على هذه الحال هو بقاء شارون الذي يحبه الناس ويضيئون من أجله الشموع، وإذا تم التنافس الإنتخابي فسيكون تنافسا في ظل نزاع الأب أو الجدة، وسيتم الإقتراع من خلال التعبير عن العطف والتعاطف والإحتضان و"معرفة أهمية اللحظة"، وتستمر وفود الشتات بالحضور ويتم توحيد الشعب اليهودي حول رمزه الذي تمرر تحت أنفه أرغفة الشوارما مستثيرة حركات لا إرادية من عضلات الوجه...نقطة تعاطف جديدة وبلورة أخرى للهوية اليهودية حول جنرال وشخصية عسكرية مغامرة، يمثل في سيرته الزراعة والعسكرة والقتال والشك بالعرب وبنواياهم والإعتماد على القوة العسكرية في السياسة، والوطنية اليهودية، والثوابت التي يتفق عليها الجميع ضد أي سلام عادل، ولكنها تبدو الآن لسبب ما وادعة غير مؤذية بل مثيرة للتعاطف.

لا أدري إذا كنا "ما زلنا نتابع بقلق" عند نشر هذا المقال.

التعليقات